هناك إشكالية حقيقية في بعض الفتاوى التي تصدر من بعض العلماء، بل ومن خلال بعض الجهات الرسمية العربية المتخصصة بالفتاوى، وبعضها يحصل فيه خلط ما بين هو متعلق بالفتاوى، أو بادارة شؤون الحياة العادية البسيطة، وأحيانا تسبب بعض الفتاوى كوارث اجتماعية، وتتسبب بتدمير حياة بعض العائلات، نتيجة عدم فهم المفتي للحالة التي افتى بها، أو انه أعطى حكما عاما، من دون ادراك كل عناصر، ومعطيات الحالة.
كل ذلك ناشئ من عدم وجود تأهيل حقيقي، وفاعل للمفتين، فهذا فن يحتاج إلى ان يكون مستقلا، ويتطلب من المفتي ان يكون ممتلكا لفنون معينة، تجمع بين الدين، وعلم النفس، والاجتماع، وفوق كل ذلك، تتطلب مفتيا غارقا حتى أذنيه في حياة الناس، وأن يكون مدركا، ومطلعا على ما يجري في الدنيا من تغيرات متسارعة، تجعلك تتخلف عن الركب إذا أغمضت عينيك لجزء من الثانية، وليس لقرون كما يحصل مع البعض.
لكن حينما تنظر إلى بعض المفتين – مع اجلالنا واحترامنا لهم- تجدهم غير مطلعين على التغيرات التي تحصل في الدنيا، وهم لا يشاركون الناس في حياتهم، ونشاطاتهم المختلفة، بل إن الحلقة الاضيق التي يعيشون فيها لا تضم سوى مجموعة من المتدينين جدا، أصحاب اللون الواحد، الذين لا يمثلون المجتمع، ولا يعرفون عنه الكثير، وبذلك تغيب الرؤية الواضحة عن مثل هؤلاء، فتجدهم يتعاملون مع الفقه بزاوية واحدة، تجعلهم غير قادرين على الوصول إلى فتوى دقيقة.
وإذا اطلعنا على آلية عمل المفتي، فإننا نجد تشابها بين عمله وعمل الطبيب، فإذا لم يتمكن الطبيب من تشخيص المرض، ووصفه بدقة، ومعرفة الأدوية المتاحة، وتأثيراتها، ومضاعفاتها فلن يستطيع ان يصل إلى علاج ناجع للمرض.
وهناك بعض الحالات التي نعرفها جيدا، والتي أدت الأمور فيها إلى نتائج كارثية بسبب إعطاء المفتي للمستفتي رأيا عاما، لا علاقة له بالواقع، أو بناء على توصيف المستفتي، من دون التحقيق في الموضوع، مع ان الموضوع فيه أكثر من طرف، وإليكم بعض هذه النماذج:
أحدهم يعامل زوجته بطريقة سيئة جدا، ورغم ان لدى أمها، وأمه، وأختها، وأختها، خادمات، وهي من بيئة غنية جدا، الا انه وكي يقوم باذلالها يسحب الخادمة من البيت، ويطلب منها تنظيف الحمام، رغم انها لم تعتد على ذلك، وحينما ترفض يذهب إلى أحد المشايخ، ويصف له الأمر بان زوجته لا تطيعه، وتتكبر عليه، وانفها في السماء، لكن يبدو ان ذلك الشيخ لم يسأله عن القضية كاملة، وظروفها، فقال له بالحرف الواحد:
هذه زوجة إما ناشز، أو يخشى نشوزها.. اضربها.
فما كان من هذا الزوج الا ان تسلح بهذه الفتوى، وبتخلف في ثقافته، والثقافة العامة للمجتمع، فذهب إلى البيت، وطلب من زوجته تنظيف الحمام، فاعتذرت، وقالت انه يعرف مستواها المادي، والاجتماعي قبل ان يتزوجها، وهي اشترطت عليه وجود خادمة قبل الزواج، فقال لها بالحرف الواحد: اخرسي.. ثم انهال عليها بـ"عصا المكنسة"، والنتيجة طلاق، والسبب شيخ متخلف لا يفهم من الدين سوى نصوص يحفظها عن ظهر قلب، ولا يعرف من الدنيا شيئا.
وعلى الجانب الآخر هناك من افتى لصاحب شركة بان الاشتراك في الضمان الاجتماعي حرام، وانه عليه أن يهرب منه بأي طريقة، وإذا أجبر على ذلك، فيجب ان يدفع الموظفون التكلفة كاملة، كي لا يشارك هو في الحرام، فرح صاحب الشركة بهذه الفتوى التي توفر عليه آلاف الدنانير، لكنه لم يقل للشيخ المسكين انه يجبر الموظفين على العمل الاضافي من دون ان يعطيهم قرشا واحدا، وانه يؤجل دفعات العملاء لسنوات رغم توفر السيولة لديه، كي يقوم باستثمارها والحصول على أموال من ورائها، وقضية الضمان الاجتماعي أيضا لو فهمها بعض العلماء بشكل صحيح، لأفتوا بوجوبها، لما لها من أهمية في حفظ الناس، وتقوية المجتمع، وحفظ الحقوق، وغيرها من الفوائد.
الناس تحب الفتاوى، وتستمع لها، وهي فرصة لإعادة تأهيل من يتصدى للفتاوى، كي يكونوا قادرين على رفع مستوى الناس، والعمل على تطوير تفكيرهم، للوصول إلى مجتمع متآلف، متماسك، بعيد عن الظلم، والقمع، والأهم من ذلك الا يقع المفتون ضحايا لمن يتعاملون مع نصوص الدين، وفتاواهم، كسلاح يحقق لهم فوائد دنيوية
محمود أبو فروة الرجبي
الغد:25/2/2011
ابحث
أضف تعليقاً