wasateah
المنتدى العالمي للوسطية
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً
عدد الزوار page counter
التخطيط في الإسلام

الحمد لله رب العالمين …أمر بالإعداد والتخطيط والعمل الجاد فقال تعالى (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة:100) .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له … له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير .. عظم شأن التخطيط فربط بينه وبين عمل الآخرة فقال تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(القصص:77) .

وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم .. أمر بالتخطيط والأخذ بالأسباب فقال صلي الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : (لو أنكم توكلون على الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا ، وتروح بطانا ) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في ” صحيحه ” والحاكم ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

أما بعد :ـ فيا أيها المؤمنون:

إن الله تعالى خلق الإنسان لمهمة عظيمة تتمثل في عبادته سبحانه وتعالي فقال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات: 56]، والعبادة هي تحقيق مراد الله في تعمير الأرض قياماً بواجب الخلافة. ولذلك ربط الله الإيمان بالعمل في القرآن الكريم, ”وحيثما ذكر الإيمان في القرآن أو ذكر المؤمنون ذكر العمل, قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [الحجرات: 155].

قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }[النور: 55] . فقد اشترط للاستخلاف والتمكين أن يكون إيماناً ويكون عملاً واشترط أن يكون العمل صالحا يعني موافقاً لما شرع الله عز وجل . واشترط أن يكون العمل وفق تخطيط محكم حتي يؤتي ثماره المرجوة ولا يكون العمل صالحاّ بلا تخطيط .

مفهوم التخطيط :ـ

المعنى اللغوي :ـ يقول ابن منظور : الخط: الطريقة المستطيلة فى الأرض … وخط بالقلم : كتب؛ والتخطيط : التسطير؛ والخِطَّة ـ بكسر الخاء ـ: الأرض والدار يخطها الرجل … يحتجزها ويبنى فيها. والخُطَّة ـ بالضم ـ: شبه القصة والأمر … وفى حديث الحديبية :” لا يسألونى خُطَّة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ” وفى حديثها أيضاً : ” إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ” أي امراً واضحاً فى الهدى والاستقامة… وفى رأسه خطة : أي أمر ما … وقولهم :  خطة نائية أي مقصد بعيد.

المعنى الاصطلاحي :ــ هو منهج إنساني للعمل يستهدف اتخاذ إجراءات في الحاضر ليجني ثمارها في المستقبل ..

أهمية التخطيط :

إن العمل بدون خطة يصبح ضربًا من العبث وضياع الوقت سدى، إذ تعم الفوضى والارتجالية ويصبح الوصول إلى الهدف بعيد المنال.

* وتبرز أهمية التخطيط أيضًا في توقعاته للمستقبل وما قد يحمله من مفاجآت وتقلبات حيث أن الأهداف التي يراد الوصول إليها هي أهداف مستقبلية أي أن تحقيقها يتم خلال فترة زمنية محددة قد تطول وقد تقصر ، مما يفرض علي الإنسان عمل الافتراضات اللازمة لما قد يكون عليه هذا المستقبل وتكوين فكرة عن ما سيكون عليه الوضع عند البدء في تنفيذ الأهداف وخلال مراحل التنفيذ المختلفة.

خطوات التخطيط :

1 ـ الخطوة الأولي : الرؤية ( ماذا نريد ؟! )

2 ـ الخطوة الثانية : الأهداف .

3ـ الخطوة الثالثة : الوسائل .

4ـ الخطوة الرابعة : الجدول الزمني .

5ـ الخطوة الخامسة : توزيع الأدوار .

6ـ الخطوة السادسة : متابعة الخطة

التخطيط في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة :ــ

لقد أمر الله عز وجل بالتخطيط في القرآن الكريم فأمر المؤمنين بإعداد القوة فقال:{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [الأنفال: 600].

والأمر بإعداد القرة أمر يتضمن الأمر بالتخطيط لأن إعداد القوة نشاط هادف , ولأنه يحتاج لكثير من المعلومات بعضها متعلق بالحاضر وبعضها متعلق بالمستقبل ”تنبؤ” ,ومن معلومات الحاضر مستوى قوة المسلمين ومستوى قوة العدو ؛ ومن معلومات المستقبل نشاط العدو ومحاولاته تحسين قوته والفرص المتاحة أمامه للنجاح ومثل ذلك فيما يتعلق بالمسلمين .

ومن الآيات المتضمنة الأمر بإعداد القوة , والمتضمنة ـ بالتالي ـ الأمر بالتخطيط قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{64} يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ{65} الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ{66} [الأنفال: 64-666].  فالمسلمون مطالبون وفق هذا النص القرآني بحيازة معلومات عن موقفهم, ومقدار قوتهم مقارنة بموقف العدو, ومقدار قوته ثم إعداد خطتهم في ضوء هذه المعرفة وفي ضوء معايير النصر التي جعلها النص في خط ممتد طرفه أن يكون المسلمون في أوج قوتهم فيكون التناسب بينهم وبين عدوهم حينئذ واحداً إلى عشرة , وطرفه الآخر أن تضعف قوة المسلمين فيكون التناسب واحداً لاثنين؛ مع الأخذ في الحساب بقية المتغيرات مثل الصبر وصدق اللقاء و … الخ . في ضوء هذه المعرفة وهذه المعايير يخطط المسلمون ويستقرئون الأحداث التي يطويها المستقبل , ثم يختارون البديل الذي يحقق الخير أو يقلل الشر إلى أدنى مستوياته .

وإذا طمع المسلمون في نصر الله وتمكينه فسبيلهم التخطيط الذي يضبط حركتهم بمرضاة الله ويجعل رضا الله معياراً لما يؤتى وسخطه معياراً لما يترك.

قال تعالى:{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ{40} الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ{41} [الحج: 40-411].

ولم يرتب الله جزاءً على إيمان لا يتبعه عمل صالح . وكيف يكون العمل صالحاً إذا لم يكن هادفاً , وهدفه موافقاً للغاية من خلق الخلائق, ووسائله مرضية لله؛ وهذه هي مراحل التخطيط؛ فالله لم يرتب جزاء على عمل غير مخطط قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً }[مريم: 96]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً }[الكهف: 30].

التخطيط في قصة ذي القرنين الذي مَنَّ الله عليه بالتمكين وهيأ له الأسباب ..

 هل قعد ذو القرنين مكتوفاً بعد التمكين وتذليل الأسباب ؟ أم تحرك فاستثمر الأسباب في صناعة التغيير وقيادته لتحقيق إرادة الله في تعمير الأرض والقيام بواجب الخلافة فيها ؟ لقد أخذ بالأسباب وصنع التغيير وقاد الإعمار.

كان ذو القرنين قائدا له رؤية، وأقام أعماله على قواعد التخطيط السليم، لذا قال لهم: {فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردمًا}، يقول الشيخ الشعراوي: (لقد طلبوا سدًا وهو يقول: رَدْمًا، لقد رقَّى لهم الفكرة، وأراد أن يصنع لهم سدًا على هيئة خاصة تمتصّ الصدمات، ولا تؤثر في بنائه؛ لأنه جعل بين الجانبين رَدْماً كأنه سوسته تُعطِي السدّ نوعاً من المرونة، وهكذا يجب أن يكون المؤمن عند تحمُّل مسئولية الخَلْق) [تفسير الشعراوي، (16/9650)] مخططًا ناجحًا له رؤية.

خطوات التخطيط في حياة ذي القرنين :ــ

1ـ تحديد الرؤية المستقبلية ، ودراستها دراسة جيدة.

أن يأجوج ومأجوج بكثرتهم، سيعيثون في القوم فسادًا طيلـة حياتهم وحياة ذرياتهم من بعدهم

2ـ تحديد الهدف المنشود .

يستلزم إقامة ردم ضـخم علـى أعلـى تقنيـة، يمنع هجمات قـوم يأجوج ومأجوج على هؤلاء القوم والبشر في كل زمان ويبقى أبـد الدهـر.

3ـ بعث الأمل في نفوس أتباعه :ــ

لا توجد خُطة بدون الروح التفاؤلية ، لذلك بدأ ذو القرنين اجتماعه معهم بالإنصات لهم والاستماع إليهم وهم يعرضون أزمتهم.. فهم من تحدثوا أولًا، فقاموا يعرضون الأزمة: {يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 944].

لقد كان الموقف في حاجة إلى من يحسن تهدئته ويبث الأمن في نفوس القوم ويصدر لهم الثقة في الله عز وجل أولًا ثم في إمكاناته التي وهبها الله إياه، فما كان من ذي القرنين، إلا أن بدأ حديثه بالثناء على الله عز وجل وما منَّ عليه من إمكانيات كثيرة، فأشاع جـوا من الطمـأنينة: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا}[الكهف: 95]. ولقد تميز ذو القرنين بإجادة لغة التخاطب وهذه من مميزات القائد الناجح ،فالقوم لا يكادون يفقهون قولاً، وكان له في هذا عذر في عدم مساعدتهم، ولكن لابد أنه اجتهد في الوصول إلى وسيلة للتخاطب معهم والتأثير فيهم ببلاغـة منطقه وقـوة حجته، مبينًا لهم ما سيكون لهم من ثـمرة جهدهم ألا وهـو صنـاعة أمنهـم.

4ـ احترام وجهة النظر الأخرى.

لقد طرح القوم حلًا لأزمتهم، ومع ذلك فلم يقاطعهم ذو القرنين أو يعترض عليهم، حتى وإن كان في الحل ما يثير حفيظته بقولهم له: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} إنه الممكّن في الأرض، ذو الجاه والسلطان، وهاهم يشترطون عليه أن يدفعوا له نظير قيامه بعمل لهم، ورغم ذلك لم يستدع ثورته ولم ينفعل، ولكن بهدوء قال لهم: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ}. (ثم بدأ في جذب اهتمام الحضـور واستثـار عقولهـم فهتف فيهم: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ}.

5ـ توظيف كل الطاقات :ــ

وكان ذلك من خلال رسالة قويـة وبليغـة ومختصرة، جمع بها شتاتهـم ليحوّلهـم إلى قوة بشرية هائلة متحفزة، تنتظـر الأوامر الصادرة لها لتعمل بجد خلف قيادة مؤمنة وحكيمة. تلك هي القيادة التحويلية التي تحول الجموع المتكاسلة إلى قوة بشريـة هائلة تنفذ أكبر مشروع على الأرض)

كون ذو القرنين فرق العمل لتنفيذ هذا العمل المعجـز، ولقد وزع ذو القرنين أدوارًا ومراحل للعمـل عليهم ونسق بينهم. ولقد ظهر هذا جليًّا من الآيات الكريمـة، فتكونت فِرَق العمل الآتية:ــ

1- فريق لإحضار الحديد وتكون فور قولـه سبحانه وتعالى: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾، وما يستلزم هذه المهمة من التنقيب عن خام الحديد، والكشف عن مناجمه وإعداده على الصورة التي طلبها ذو القرنين، ونَقْله إليه عندما يطلبه.

2- فريـق للتجهيزات والمعاونة، وهذا الفريق يتولى تعبيد الطرق وإعدادها من مواقع الحديـد، ومواقع النحاس، وأفران صهره، حتى موقع الردم. كذا المعاونة فيما تستلزمه المساواة بين الصدفـين، والذي يتولاه ذو القرنين.

3- فريق لإيقاد النيران، وهذا الفريق يتولى إعداد مواد وخامات الاشتعال، كذا أدوات النفخ والبـدء في النفخ لإشعال النيران عندما يطلب ذلك ذو القرنين في الوقت المحدد.

4- فريــق لإعداد النحــاس المــذاب، وهذا الفريق يتـولى، اكتشاف خام النحاس، ونقله إلى أفران صهره، والتي يقيمونها، ثم صهر النحاس ونقله إلى موقع الردم عندما يطلبه ذو القرنين. وهذا كله قد وضح من قول ذي القرنين إجمالاً، دون الدخول في هذه التفاصيل بقوله سبحانه وتعالى: ﴿آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾.

هذه بعض الفرق التي نستطيع أن نجزم أن هذا العمل قد تطلبها – وأكثر من تصورنا هذا قد حدث- لما يتطلبه هذا العمل الضخم من فرق لتنفيذه، حتى إننا نتخيل أنه لابد أن الشعب كـله قد عمل فيه، وذلك للحاجة إلى كثير من الأيـدي العامـلة لتنفيذه، ولا نستطيع أن نتخيل كيف شرح ذو القرنين وبيّن لكـل فريق عمله وواجباته وأن يؤدي كل فريق عمله على أكمل وأتم وجه.

6ـ جهاز المتابعة والرقابة :ــ

ولا ننسى أن القوم لا يكادون يفقهون قولاً، وكيف تابع ذو القرنين المراحل البعيدة عن موقع الردم عندما كان يساوي بين الصدفين وهناك من يعمل بعيدًا عنه في الكشف عن عنصري الحديد والنحاس وتصنيعهما، ونقل الكميات المطلوبة منهما، كذا خامات ومواد الاشتعال… وكان لابد لهذه الفِرَق أن تتولى إدارة أنفسهم بأنفسهم.

وكأني بذي القرنين قد فوض بعضًا من مهامه الإشرافية لأفراد من الشعب. وهذا ما نطلق عليه في إدارة الأعمال ”التفويض”، ولقد نجحوا في هذا. وتلك ما تنادي به النظريات الحديثة في ”القيـادة”، و”إدارة الأعمال”) .

7 ـ إدارة الـوقت :ــ إن الذين ينظرون إلى الوقت بعين الاهتمام هم الذين يحققون إنجازات كثيرة في حياتهم الشخصية والمهنية، وهم الذين يعلمون أن الوقت قليل لتحقيق كل ما يريدون، وعلى العكس من ذلك فإن المرء الذي لا يهتم كثيرًا بالإنجازات ينظر إلى الوقت على أنه ذو قيمة قليلة )

والسياق القرآني الجليـل في هذه القصة، يلفت أنظارنـا إلى أهمية عامل الوقت والاستخـدام الأمثـل له، وذلك من خلال إشـارات لطيفـة في أثناء تنفيـذ الردم. فبعد عرض فكرتـه عليهم بـدأ في التنفيـذ على الفور بقوله: {آتوني زبر الحديد}،فإذا انتهت مرحلة، بدأ بالمرحلة التي بعدها على الفور: {حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارًا قال آتوني أفرغ عليه قطرًا}.

وبدراسة مراحل تنفيذ ”مشروع الردم” الذي أقامـه ذو القرنين بمعاونتهم له، نرى أن هناك عدة أنشطة قد بدأت معًا استثمارًا للوقت وعدم إضاعته؛ حتى إننا نستطيع أن نؤكد أن الشعب كله كان في حالة استنفار، وتوزعت المسئوليات وأدى جميع أفراد المجتمع دوره بإتقـان وفي تسلسل متتـابع لمراحـل تنفيذ الردم.

لذلك استطاع ذو القرنين أن يحقق الهدف المنشود في وقت قليل وبتكلفة بسيطة لم يدع فرصة لعاطل أن ينخر في صفوف الأمة فيهون من عزيمتها ويضعف من إرادتها ،إنما الكل في عمل جاد ونشاط مستمر في ظل التعاون والخطة المُحْكَمة مع اعتمادهم علي الله تعالي .

التخطيط الاقتصادي في قصة سيدنا يوسف عليه السلام :ــ

قال تعالى : (يوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)). قص علينا القرآن قصة نبي الله يوسف الصديق عليه السلام، وكيف أنقذ الله على يديه مصر وما  حولها من أزمة غذائية طاحنة، ألهم الله يوسف فخطط لها أحسن التخطيط لمدة خمسة عشر عاما، أقام فيها اقتصاد مصر ـ

وكان الزراعة أساسه ومحوره ـ على زيادة الإنتاج، وتقليل الاستهلاك، وتنظيم الادخار، وإعادة الاستثمار، حتى نجت مصر من المجاعة، وخرجت من الأزمة معافاة، بل كان لها فضل على ما حولها من البلدان، التي لجأ إليها أهلها يلتمسوا عندها الميرة والمئونة، كما يبدو ذلك في قصة أخوة يوسف الذين ترددوا على مصر مرة بعد مرة، وقالوا له في المرة الأخيرة: (يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر، وجئنا ببضاعة مزجاة، فأوف لنا الكيل وتصدق علينا، إن الله يجزي المتصدقين) (سورة يوسف:877). كان هذا التخطيط مما علمه الله ليوسف عليه السلام ومما أكرم الله به أهل مصر. وكان  يوسف هو الذي رسم معالم التخطيط، وهو الذي قام بالتنفيذ، وهو لدى الدولة مكين أمين، وعلى خزانتها وأمورها حفيظ عليم.

التخطيط في حياة النبي صلى الله عليه وسلم :ــ

إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مَعْلم بارز في جميع جوانب الحياة ونلحظ من سيرته العطرة جانب التخطيط وإحكام الإدارة ودقة التنظيم في كل مراحل دعواته: فإذا نظرنا ـ مثلاً ـ إلى الهجرة النبوية نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع لها خطة احتوت على هذه العناصر: تحديد الهدف، اختيار المكان المناسب ، كتمان الأمر ، توزيع الأدوار ، تنظيم الوسائل، رسم أسلوب التنفيذ، محاولة التنبؤ بالمستقبل ، الاعتماد على الله ، والثقة في الله تعالى .

إن تخطيط الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة النبوية المباركة دليل واضح على أن التخطيط ضروري لمزاولة أي نشاط بشري مهما يكن نوعه، يستوي في ذلك أن يكون القائم به فرداً أو جماعة وأن يستهدف شأنا من شؤون المسلم أو شؤون الحرب وقد اتضحت رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخطيط في بناء المسجد، ودستور المدينة، وحركة السرايا، وغزواته الميمونة واتصالاته بالقبائل والدول والزعماء والملوك ولقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم التخطيط في كل مراحل دعوته السرية والعلنية وقيام الدولة إيماناً منه بأن التخطيط أساس من الأسس في إنجاح أي عمل من الأعمال، ولابد منه للبلوغ إلى المقصود وأنه ركيزة أساسية يقوم عليها هذا الدين ولذلك فإن الإسلام قد دعانا إلى الأخذ به، وجعله نظاما لحياة المسلمين لأنه ضرورة لابد منها ، وهذا ينسجم مع الفهم الصحيح لمعنى التوكل على الله والإيمان بالقدر.

والتخطيط في السنة النبوية هو امتداد للتخطيط في القرآن الكريم، ومُستمد منه، وقد اشتملت السنةُ النبوية على عددٍ كبير من صُور التخطيط القائمة على مَبدأ التوكُّل والاعتماد على الله – سبحانه وتعالى – أولاً، والأخذ بالأسباب بعد ذلك ، وحادثة الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – مع الأعرابي مَعروفة؛ حيث جاء ذلك الأعرابي وأخبره بأنه ترك ناقته عند باب المسجد دونَ أن يعقلها بعد أن توكل على الله، ولكنَّها هربت، فأخبره النبي – عليه الصَّلاة والسَّلام – بأنه كان عليه أن يتوكل على الله ويعقل الناقة؛ حتى لا تهرب. ومن صور التخطيط في السنةِ النبوية قولُ الرسول – عليه الصَّلاة والسَّلام -: (لا يُلدَغ المؤمنُ من جحر واحد مَرَّتين) ، والدروس المستفادة من هذا الحديث في مجال التخطيط هو الاتِّعاظ، وأخذ العبرة من الماضي، وعدم تَكرار الأخطاء، وأنْ يأخذَ المسلم الحذر والحيطة في الأعمال التي يقدم عليها.

التخطيط الأسري :ــ

 التخطيط الأسري أسلوب حياة! ومنهج حياتي، يجب على كل أفراد الأسرة تعلم فنونه وبشكل مستمر فالتخطيط الأسري لا يقف عند حدث، فهناك جوانب أخرى مهمة، مثل التخطيط التربوي، والتخطيط التعليمي وغيرها من جوانب الحياة الرئيسة كلها تصب في قالب الأسرة الذكية. قال سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه -: ”عادني النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – عامَ حجة الوداع من مرضٍ أشرفت فيه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغ مني من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: ((لا))، قال: أفأتصدق بشطره؟ (أي: نصفه) قال: ((لا))، قال: أفأتصدق بثلثه، قال: ((فالثلث يا سعد، والثلث كثير، فإنَّك إنْ تدَع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة يتكففون الناس))” ، ويوضح هذا الحديث أنَّ الاحتياطَ واجب، وأنَّ الإنسانَ يَجب أنْ يعتمد على نفسه بعد الله – عزَّ وجَلَّ – مع  الأخذ بالأسباب؛ لكي يعيشَ عيشة كريمة تقيه من ذُلِّ السؤال، أو الاعتماد على الغير.

أضف تعليقاً

تتم مراجعة كافة التعليقات ، وتنشر في حال الموافقة عليها فقط ، ويحتفظ موقع المنتدى العالمي للوسطية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ولأي سبب كان ، ولن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة أو خروجاً عن الموضوع المطروح ، وأن يتضمن اسماء أية شخصيات أو يتناول إثارة للنعرات الطائفية والمذهبية أو العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث أنها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع المنتدى العالمي للوسطية علماً ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط.

Filtered HTML

  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Allowed HTML tags: <a> <em> <strong> <cite> <blockquote> <code> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd>
  • Lines and paragraphs break automatically.

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.