
بسم الله الرحمن الرحيم
السيدات والسادة
أتناول – وإياكم – موضوع العلاقات العربية الأفريقية فى ضوء ثورات الربيع العربي، وأود أن أشير – ابتداءً – لطرافة المصادفة، قبل أن يستغرقنا الروح المنهجى، فاسم أفريقيا، إنما أطلق تاريخياً – أول ما أطلق – على الأرض التونسية، التى ظلت تنفرد به منذ عهود السيطرة الرومانية القديمة، ثم لتصبح كل إشارة فى كتب التراث العربي إلى (أفريقية) إنما تعنى المنطقة التونسية، أشير إلى هذه النادرة، وفى أذهاننا جميعاً أن أول شرارة من شرارات الربيع العربي، إنما انطلقت من (أفريقية) أعنى (تونس).. مع شئ من التحفظ فى هذا الزعم .. ولكنها – على أية حال- طرافةٌ صادفت محلها من التوافق مع موضوعنا اليوم.
المفردات المنهجية
يقتضيني الموضوع أن أقف قليلاً عند بعض المفاهيم التى تشكل إطاره المعرفى، وأهمها مفهوم العلاقات، ومفهوم ثورات الربيع العربي ..
فالذي أدركه حقيقةً من مقتضيات موضوع الندوة، ان المقصود ب(العلاقات) فى المدى العربى الأفريقي، هو أمر أكبر من مجرد التعريفات المنهجية التقليدية للعلاقات الدولية والإقليمية، فمن الواضح أن ثمة (إشكالاً) حقيقياً يكتنف واقع التعاطي بين جانبي المعادلة : العرب - الأفارقة، وإلا لما جاءت إثارة هذا الموضوع فى هذا التوقيت، فكأنما الواقع يقول إن المأمول من ثورات الربيع العربي أن تفضي – من خلال مستجداتها الفكرية والمؤسسية – إلى (تحول إيجابي) فى مدى التواصل العربي والأفريقي يخرج بهذا التواصل مما يمر به من جمودٍ أو تراخٍ أو حذر، وكل هذه التوصيفات- فى مجملها- يشير إلى المُشاهد فى مدار هذه العلاقات .. بمعنى أننا سننطلق من فرضيتين أساسييتين، مفادهما:
فالسؤال المحوري – إذن- الذي يستتبع ما أشرنا إليه من افتراض ، هو : ما هو المأمول من أنظمة (الربيع العربي) ان تفعله لتُحدث اختراقاً حقيقياً يستوعب إمكانات التواصل العربى الأفريقي ، ويفضي بها إلى ذروتها؟؟
أما المفهوم الآخر .. ( ثورات الربيع العربى) ، فهو مفهوم بقدر ما نتحمس له ونفرح بإعماله فى ثنايا أطروحاتنا ، بقدر ما يقتضينا التناول العلمي ، المحاذرة فى إطلاق العنان لمتوالياته ..
فوفقاً للتراكم المعرفي فى مجال الاجتماع السياسي، لن يختلف اثنان على أن ما تشهده المنطقة العربية من انتفاضات شعبية، يحمل دون ريب كل المقومات العلمية لمفهوم الثورة، ودعوني ألا أطيل فى رصد الإسهامات الفكرية هنا، لجان جاك روسو،وهيوز، وكارل ماركس، وغيرهم،
تلك التى تفصل بعمق أشراط الثورات وإفرازاتها، إذ بحسبنا هنا، أن نعتمد – ونحن واثقون – على حقيقة المد الشعبي الجاسر الذي تمتعت به هذه الانتفاضات، ليفضى إلى انحطام جهير فى استمرارية (دولة مابعد الاستعمار .. العربية ) .. وهذان هما العاملان المعول عليهما فى اختبار صدقية ( مفهوم الثورة) ، أينما كانت ...
يقول الأستاذ عرفان نظام الدين في صحيفة الحياة اللندنية بتاريخ 2 يناير 2012، (هذه الأحداث بكل تداعياتها وخلفياتها ونتائجهــا تلخص بكلمـة واحدة " نهاية" نهاية أنظمة عربية ظلت متربعة على عروشها وجاثمة على رؤوس الشعوب لعقود طويلة لم تكن تظن يوماً أنها ستسقط ولم يكن يتخيل الكثيرون أنها ستتهاوى بمثل هذه السهولة وكأنها قصور من ملح.
ونهاية النظام العربي البالي الذي بقى يراوح مكانه لأكثر من قرن من الزمان، فيما النكبات والنكسات والهزائم والفضائح والمظالم تتوالى من دون أن يتم إتخاذ قرار واحد يعيد الحق لأصحابه في فلسطين وغيرها أو يتم تبنى موقف موحد يسترجع كرامة العرب السليبة، ويكفي القول أن العام الماضي لم يشهد أى قمة عربية رغم تحديد موعدها في مارس من كل عام.
ونهاية عهود الإستبداد والتفرد بالحكم ، أو هذا ما نحلم به ونتمناه(...)
ونهاية عهود الفساد ونهب الثروات وسرقة لقمة العيش من أفواه الجائعين والفقراء وأفلاس الشعوب ووضعها على شفير المجاعة والأذلال، لافقادها الأمل ومنعها حتى من الحلم بغد أفضل (...) ونهاية السياسات الخاطئة للدول الكبرى وكل الدول القائمة على الهيمنة وفرض المواقف بالقوة واللجوء إلى الحرب والاحتلال وقمع الشعوب، بذرائع وهمية وشعارات زائفة تخفي ورائها المطامع بالثروات والرغبة بالهيمنة وإقامة إمبراطوريات إستعمارية ولي عهدها وإنتهــى زمنها.( انتهى الإقتباس)
يقول الأديب العربي الكبير نزار قباني: إن الثورة تولد من رحم الأحزان.
أما الجانب الآخر من المفهوم ، فأجدني أتفق فيه مع الأخ الصديق الدكتور عمرو موسى، حين أشار فى حديثٍ قريبٍ له عن الربيع العربي، بمنتدى الفكر العربي، إلى أنه من المبكر القطع بالرأي فى حتمية ما ستؤول إليه ثورات الربيع العربي. إن حديث الأخ الأمين السابق لجامعة الدول العربية- فى ما أُقدر – لا يعنى الإحجام عن قراءة واستشراف الوقائع المترتبة على الربيع العربى، ولا استحالة ذلك، بقدر ما يعني ضرورة التأني فى الحكم على الآتى ، حتى استكمال عملية انتقال السلطة بصورة شرعية معتدلةٍ، ليتسنى من ثم طرح السياسات فى بدائلها وخياراتها. بمعنى آخر، إن أكثر الفترات تعقيداً، ستكون تلك التى تعقب الفراغ من إنشاء المؤسسات الدستورية والسياسية، لتبدأ مرحلة الممارسة وفقاً للخطط والبرامج المطروحة، ذاك هو التحدى الحقيقي ، الذى تحدونا فى تجاوز عقباته، طموحاتٌ كبرى وتفاؤلٌ ناطق. فالطبيعى بعد أن زالت نشوة الإنتصارات وجاء وقت التفكير العملي، أو كما يقول المثل- مع شئ من التعديل من عندى- "زالت النفرة وجاءت الفكرة "،أقول : من الطبيعي أن يبدأ التساؤل المشروع هل نحن متجهون نحو غد أفضل ومستقبل مشرق أم أننا سننتهى الى يوم قد نبكى فيه على يوم بكينا منه.
تلك إذن نظرة عاجلة لما تقتضيه منى المنهجية الوقوف عنده من مفاهيم وافتراضات، غير أن ثمة هاجسين أحدهما عربى والآخر أفريقي، ما ينفكان يطلان برأسيهما، كلما عرضتُ لشأنٍ عربى أفريقى، طيلة ثلاثين عاماً من تجربتى فى العمل السياسي ببُعديها الشعبي والرسمي..
فمن الجانب العربي، كثيراً ما يتردد السؤال (الهاجس) هل بقى لدى الأفارقة حقاً ما يقدمونه للعرب فى ظل الحراك السياسي والاقتصادي والثقافي الذى غدت تتحكم فيه قوىً أكثر عتواً ونفاذاً؟ بمعنىً آخر ما الذى يمكن أن تسهم به أفريقيا فى ميزان العلاقة بين الجانبين ليكون ميزان العلاقة معتدلاً؟
أما من الجانب الأفريقي، فيثور استفهام مشروع مفاده أن المنطقة العربية مثقلةٌ بما يكفى من المعضلات، فلم لا ينكفئ العرب على معضلاتهم – أولاً- يرتادونها بالحلول- كأولوية- منطقية-حتى لا تتحمل أفريقيا أعباء على أعبائها!!
إن هذين التساؤلين اللذين يريد لهما البعض أن يشيعا – بحسن نيةٍ حيناً، وبتآمرٍ أو لا مبالاة أحياناً أخرى – أجدنى مندفعاً إلى التصدى لهما من واقع شواهد عديدة تبدت ، وتتبدى لي يوماً إثر آخر، غير أنه اندفاعٌ تحكمه – فى نهاية المطاف- واقعيةٌ آخذ منها بطرفٍ إيجابي، يجعلنا نقرأ المعطيات فى إطار كلي لا انتقائي.
ومن هذا المنعطف، ولإيضاح تلك القرائن الشاهدة، يبدو مهماً إلقاء نظرة سريعة على تاريخية العلاقات العربية الأفريقية، وهو مبحثٌ ما كنت أود التطرق إليه فى ظل محدودية الوقت، وغلبة البعد المستقبلى على الموضوع، لولا أن للملمح التاريخي ضرورته فى تأكيد حقيقتين ستحكمان موضوعنا، وهما:
ملمح تاريخي
رغم ما يسرده الانثروبولوجيون من دلائل على إيغال الصلات العربية الأفريقية فى مسارب التاريخ، بما يفوق عمر التكون الجيولوجي لحوض البحر الأحمر – أي قبل الانشقاق العظيم – فدعونا نقنع بأحدث من ذلك بكثير.. لنعود إلى عهد ما قبل ظهور الإسلام، الذي شهد حركة مؤثرة بين السواحل العربية والأفريقية ، وعلى وجهٍ خاص مضيق باب المندب الذي كان واصلاً طبيعياً بين جنوب الجزيرة العربية والأراضي الحبشية، ليتضح أثر ذلك في انتماء كلا اللغتين العربية والحبشية إلى أصلٍ لغويٍ سامي واحد، هو اللغة الحميرية. فالذي يدقق النظر اليوم فى مفردات لغة الأمهرا – على سبيل المثال – سيدهشه ثراء هذه اللغة بالمفردات العربية. وفوق ذلك ، كان المجتمع الجاهلي العربي ذا جاذبيةٍ فى استيعاب المجموعات الأفريقية وانصهارها فى المصهر العربي، وكانت المجموعة الحبشية أكثر تلك المجموعات عدداً، إذ وفدت حاملةً معتقداتها المسيحية التى وجدت لها مناخاً مواتياً فى أرض اليمن، خاصةً، غير أنه وبظهور الإسلام ، واختيار أصحابه الأرض الحبشية مقراً حامياً لهم، بزغت أولى الشواهد على الواصل الطبيعى الذي زين لدى العرب حقيقة أن الأقرب إليهم معتقداً وسلوكاً هم أنصارهم من القاطنين فى الشرق الأفريقي .. وهو التطور المنطقى الذي أثرى حياة الجزيرة العربية بثقافة تضجُ بالنضج-رغم عقبات الرق، التى أفلح الإسلام فى سد منافذها بجعله العتق باباً للصدقة والاستبراء والتعويض- لذا لم تجد الجيوش الإسلامية القادمة إلى أرض أفريقيا السمراء، كثير عناءٍ فى عقد اتفاقات سلمية، مثل اتفاق (البقط) التاريخي النموذجي، الذي وقعه عبد الله بن أبى السرح ، مع نوبة السودان عام 621 م، وهو الاتفاق الذي ضمن المسالمة مع السماح لإشعاع الإسلام بالانطلاق فى تلك الأرض البكر، بعد إذ ركز لواء ذلك الاشعاع فى مصر واستتب فى ربوعها.
إن انتشار اللغة العربية والديانة الإسلامية هما عماد الأثر الحضاري الذي خلفه العرب ، على عكس غيرهم من الوافدين بفوهات بنادقهم ومدافعهم، لا تحفزهم إلا المصالح الضيقة : طعاماً وكساءاً واسترقاقاً، أعني التيارات الاستعمارية الغربية.
لقد كانت الموجات العربية الحضارية القادمة من الشرق العربي إلى أفريقيا (غرباً وجنوباً) ذات أثر بالغ فى تكوين الممالك المستقرة فى المغرب العربي، وفى أرض مالي وسنغاي وإمارات الهوسا، ثم كان ذلك تمهيداً للحراك السياسي الاقتصادي التنافسي الذي قاد سلطان البوسعيديين(سلطنة عمان) الى التمدد عبر المساحات البحرية الشاسعة ليستقر فى الجنوب الشرقي من أفريقيا(زنجبار)، لتتأسس أكثر الممالك تأثيراً حضارياً فى تلك الأصقاع، إلى الحد الذي وجد السكان المحليون أنفسهم ينقادون دون عسر صوب الدين واللغة الجديدين، بل لتتألف لغة جديدة من واقع التأثير العربي، وهى اللغة السواحلية التى تحظى اليوم بالغلبة فى كل الساحل الشرقي لأفريقيا..
غير أنه ما إن أطل البرتغاليون بمطامعهم الاستعمارية حتى سقطت المنطقة كلها في براثن التهديد الدولي، الذي كان نتاجه انحسار المد العربي فى تلك الأصقاع، ولم يقف ذلك عند حدود البرتغاليين، بل تعداه إلى البلجيك الذين هيمنوا على منطقة حوض الكونغو، ليجعلوا من التجار العرب هدفاً أساسياً لهم فاستقصدوهم بالعداء والحرب حتى انزوت مآثرهم، وبقراءة مستطلعة فى مذكرات المستكشفين الأوربيين ( ستانلي وليفنغستون وبيكر) يتبدى هول ما لاقاه العرب فى أواسط أفريقيا وجنوبها من عنت المستعمر، الذي لم تغب عنه قط حقيقة (البُعد الحضارى) الذي يحمله المسلمون معهم، لذا كان هدفاً أساسياً لهم الحد من تدفق ذلك المد، وهو ما فعله البريطانيون – دون أدنى وازع- حينما أقروا قانون المناطق المقفولة فى جنوب السودان العام 1921، وهو القانون الذي حرم على أهل جنوب السودان أي مظهر من المظاهر الحضارية العربية الإسلامية، لبساَ، ولغةً، وديناً، وسلوكاً، فأفضى إلى ما أفضى إليه اليوم من انفصال الجنوب السودانى.
السياسات المعاصرة
إن الحقيقة القائلة بأن ثمانين بالمئة من العرب هم أفارقة (200 مليون)، هى ركنٌ أساسي فى ترسيخ حتمية التواصل العربي مع أفريقيا، وهي حقيقة استوعبها بمسئوليةٍ وذكاء آباء الاستقلال فى البلاد العربية، وبخاصةٍ فى مصر والسودان، لذلك وجدت حركات التحرر الأفريقي – كما هو معلوم – دعماً ومساندةً كبيرين منهما لذلك أيضاً لم يكن مستغرباً أن تكون الخرطوم والقاهرة مقراً دائماً ومحجاً لتلك الأسماء الباهرة فى عهد التحرر مثل كوامي نكروما ونلسون مانديلا، ولوممبا، وسواهم. ولقد أتيحت لي فرصة المشاركة في الذكرى المئوية لتأسيس حزب المؤتمر الوطني بجنوب أفريقيا في الثامن من يناير 2012 ولقد أحزننى أن خطاب الرئيس جيكوب زوما رئيس جنوب أفريقيا الذي أستمر لأكثر من ساعة ، حكى فيه تاريخ النضال في جنوب أفريقيا ، وأشاد بالدول التى ساندت هذا النضال على مر التاريخ، ذاكراً هذه الدول بالاسم ، إلا أنه لم يأت على ذكر أى من مصر أو السودان أو ليبيا ودول عربية أخرى قدمت الكثير دون من أو أذىً.
ولقد أوردت في مؤلفى بعنوان( السودان وحركات التحرر الأفريقية)، بعض ماقدمه السودان لحركات التحرر الأفريقية، وهذه ليست دعاية للكتاب - وإن كنت لا أرى بأسا في ذلك تشجيعاً للقراء ليقتـنوه، باعتباره الكتاب الوحيد حتى الآن الذى أصل لهذا الدور، في وقت يكاد الناس ينسون ما قدمه السودان ومصر بل العرب لدعم حركات التحرر الأفريقية - ولما كانت السياسة الدولية تلقى بظلالها دائماً على السياسات الداخلية والإقليمية، فإن الحرب الباردة – بأجوائها التى امتدت نحواً من نصف قرن من الزمان- أتاحت بيئةً مواتية للتقارب العربي الأفريقي، الذي أفاد كثيراً من ظروف التنافس الأمريكي – الروسي وملابساته، وقد كان نتاج ذلك أن وجدت القضايا العربية مساندةً منقطعة النظير من الشعوب الأفريقية وقادتها، لا سيما وأن منظومة دول عدم الانحياز(1955 ومابعدها)، قد مكنت من توفير ظروف تلاقٍ وتنسيقٍ غير مسبوقة للجانبين، بينما كانت القارة الأفريقية ومنطقة الشرق الأوسط تزداد أهمية استراتيجية فى أتون الصراع الدولي. لذا فبينما شهد عقد الخمسينات تأسيساً حقيقياً لمفهوم التناصر العربي الأفريقي، فإن عقد الستينات جسد انطلاقة الممارسة الفعلية لذلك التناصر، إذ أكدت قمة الوحدة الأفريقية عام 1963، فى أديس أبابا، ضرورة التعاون العربي الأفريقي، وهى قمة تأسيسية مشهودة حضرها ثلاثون من رؤساء الدول، أعقبتها قمة القاهرة عام 1964. التى شهدت التزاماً بالمضى فى التعاون والمساندة، جسدت مصر فيه حجر الزاوية فكرةً وتنفيذاً، لا سيما وأن القضية الفلسطينية لقيت فى أجواء المداولات حظاً موفوراً من الدعم ، وهو ذات النهج الذي أكدته قمة أكرا عام 1965، ثم كانت القمة الأفريقية عام 1967، التى أبدت فيها دول القارة تقارباً واثقاً مع الشعوب العربية فى مواجهة العدوان الاسرائيلي، ثم كان أن قرر مؤتمر القمة الأفريقي 1969، ضرورة تطوير التعاون العربي الأفريقي فى شتى المجالات، وكان نتيجة كل تلك الجهود، الحد من المحاولات الإسرائيلية الباحثة عن موطئ قدم آمن فى العمق (الأفريقي) ، وقد جاءت اللحظة المشهودة بطرد الرئيس اليوغندي عيدى أمين 500 من الخبراء الإسرائيليين واستبدالهم بخبراء عرب، وهو القرار الذي توجته اللحظة التاريخية التى اصدر فيها المجلس الوزاري لمنظمة الوحدة الأفريقية قراراً يقضي باعتبار، القضية الفلسطينية قضية ذات أولية فى بنود المنظمة، شأنها شأن أية قضية من قضايا التحرر الأفريقي، فكان أن أعلن مجلس الجامعة العربية – بالمقابل- عن تضامن الدول العربية مع الدول الأفريقية لتحرير كل شبر أفريقي، فاطردت الجهود- نتيجة ذلك - لإقامة (مؤتمر التعاون العربي الأفريقي) – داكار 1976، الذى أصدر وثيقته الشهيرة، المعروفة (بوثيقة داكار) ، إذ وضعت خطةً مفصلةً فى العمل المشترك ،وهو ما غدا نهجاً فى التنسيق على مستوى السياسات الخارجية والبعثات الدبلوماسية فى مؤتمر لومي التالي، ( تطلعاً نحو تحقيق التعاون فى شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من خلال التخلص من التبعية وترسيخ التحرر والتنمية .. وتطبيق مبدأ التعايش السلمي..) على حد تعبير البيان الذي خرج عن مؤتمر لومي 1977، وهو المؤتمر الذي مضى خطوة واسعة فى سبيل تحقيق غايات (وثيقة داكار) ، التى سبقت الإشارة إليها ...
وهنا سأتوقف قليلاً، لنتأمل جميعاً
فالعام 1977 ، كان الذروة التى بلغتها جهود التعاون العربي الأفريقي، ثم لم تنفك – بعده - متوالية العلاقة فى الانحدار تدريجياً، ولأسباب متعددة، منها :
أولاً : إن العام الذي شهد ذروة التعاون، هو ذات العام الذي شهد مبادرة السلام المصرية الإسرائيلية، التى جاءت بمثابة صدمة لبعض كبار القادة الأفارقة، ومتنفساً لآخرين منهم، كان الحياء يلجمهم عن التقارب مع تل أبيب .. أما والأمر كذلك، فإنهم ليسوا أولى بالقضية العربية من أهلها .. وبذلك انحطم أهم أركان التعاون بين العرب والأفارقة، إذ انفتح الباب أمام دول القارة السمراء للتطبيع مع اسرائيل.
ثانياً: جاء الحماس العربي للثورة الإيرانية عام 1979 ، بمثابة صعود حاسم للتيار الثوري الإسلامي فى المنطقة العربية، تلته أحداث الحرب العراقية الإيرانية، ثم الاجتياح الاسرائيلي للبنان، بما جعل مطلع عقد الثمانينات ( ثم عقد الثمانينات كله) عقد الانكفاء العربى على المآزق العربية، فلم يعد لأفريقيا ذات المقام من الاهتمام.
ثالثاً : توالى خلال الفترة الممتدة بين مطلع السبيعنات ونهاية الثمانينات ، نجاح حركات التحرر الأفريقية فى استكمال المشروع التحرري الأفريقي(الذى كان قد بدأ منذ أوائل الستينات)، وبذلك خفت الحماس الأفريقي لاستقطاب الدعم والمساندة العربيين ، فانحسرت موجة التعاون بين الجانبين.
رابعاً : بنهاية الثمانينات وبداية التسعينات شهد العالم انطواء صفحة الحرب الباردة، التى – برغم كل أوهامها وما أضاعته من وقت وجهود – كانت توفر إطاراً (رقيقاً) للتعاون العربي الأفريقي، إذ كان كلا الجانبين يحاول النأي عن التيارات العالمية وإيجاد ملاذ له فى التعاون الاقيلمي، الذي أضحى – مع صعود القوة الأحادية الأمريكية – أمراً مشكوكاً فى نجاعة جهوده.
خامساً: بحلول منتصف التسعينات كانت الأجواء الثقافية لتيارات العولمة قد ركزت قوائمها وألقت بتبعاتها على العالم كله، لتفرض- عبرالتطور... التقنى الاتصالي- ثقافة غالبة تتسم بالعالمية ذات (السمت الغربي)، المخترق للثقافات الإقليمية والمحلية إلى الحد الذي ذابت معه الخصوصية الثقافية التى كان يسعى لإحيائها العرب والأفارقة .. كلاهما..
سادساً : جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، بمثابة المنعطف الأخطر فى السياسة الدولية ، إذ أخذ بها مفهوم (الإرهاب)، أقصى مدىً له، فكان نصيب منطقة الشرق الأوسط منه : الأوفر والأقسى والأمر، بما جعل كثيراً من دول العالم تتجنب توشيج علاقاتها مع الدول العربية وبخاصة تلك التى وصمتها العواصم الغربية بالإرهاب.. ولقد ألقى ذلك بظلاله – دون ريب – فى مدار العلاقات الأفريقية العربية..
رغم كل ماذكرته لا بد من الإشارة إلى الجهود الكبيرة التى بذلتها الجامعة العربية مؤخراً في عهد أمينها العام السابق الأخ عمرو موسى لتطوير العلاقات العربية الأفريقية في سياق محاولاتها قيادة عملية الإصلاح في العالم العربي ومنظومة العمل العربي المشترك، مما أوردته في مؤلفى "الأمن القومي العربي"، وفي مقالٍ حديثٍ لي بصحيفة الشرق الأوسط اللندنية بعنوان: ( هل كان عمرو موسى كصالح في ثمود).
نظرة على الواقع ..اليوم
إن الدواعى المتعددة المذكورة آنفاً قادت إلى تراجع العلاقات بين العرب والأفارقة، رغم مفارقات عديدة، منها اختيار ليبيا – فى عهد القذافى بالطبع- الركون إلى الأفارقة انتماءً ونشاطاً، في إشارةٍ إلى اليأس من مقولات الوحدة العربية والتعاون العربى العربي ، بل التعاون العربي الأفريقى، وسعت القيادة الليبية يومذاك إلى تحقيق فكرة الولايات الإفريقية المتحدة، بعد نجاح فكرة (الإتحاد الأفريقي)، غير أن الجميع، بما فيهم الأفارقة، كان يعلم أن ذلك الحماس- الذى أملاه وقوف الدول الأفريقية إلى جنب طرابلس إبان أزمة لوكربى- أقول، كانوا يعلمون أنه حماسٌ غير متجذر فى الذات العربية، بقدر ما هو شأنٌ نخبوي، ولقد كان أقصى ما يمكن أن ترد القارة به – كجميل – على ذلك الحماس الليبي، أن تأخرت مساندة الاتحاد الأفريقي للمجلس الوطني الليبي الثائر .. ثم لم يلبث القادة الأفارقة أن مضوا على درب من سبقوهم بالتأييد حين بدا المسرح يخلو من وجود حقيقي للقيادة السابقة: (ملك ملوك أفريقيا)..
إن المشهد اليوم يقول بأنه ما بين انعقاد أول قمة عربية – أفريقية عام 1977، وحتى اليوم ، أى خلال خمسة وثلاثين عاماً، فإن العلاقات العربية الأفريقية شهدت ماهو أقرب إلى التدهور .. والشواهد عديدة ..
فعلى الصعيد الاقتصادي لم يتجاوز التبادل التجاري ما نسبته 3% فى أعلى الوتائر!! وما ذاك إلا لضعف إرادة الحفز والمبادرة وغياب الأطر الحقيقية للتنسيق من الجانب العربى – على وجه خاص – رغم استعداد الأفارقة في كثير مما عبروا به، لا سيما وأن منظوماتهم الاقتصادية كالكوميسا والنيباد وسواها تكشف عن جاهزيةٍ فى التعاون والاستيعاب.. ولولا بعض الاستثمارات العربية في بعض الدول الأفريقية مثل أثيوبيا، ونشاطات المصرف العربي للتنمية الإقتصادية في أفريقيا لخلت القارة من أي ملمح من ملامح استقطاب الرساميل العربية التى تخفق فى الثبات عند أية مقارنة لها باستثمارات دولة واحدة من دول القارة – أفريقياً – مثل دولة جنوب أفريقيا !! يرد كل ذلك فى أجواء من التسابق الدولي على موارد القارة العذراء، وهو تسابق يلخصة التنافس غير الخفي بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وبخاصة فى منطقة البحيرات، لا سيما مع اتساع رقعة الاستثمارات الصينية الجذابة فـى منطقة الحـزام الأفريقي ...
و تجدر الإشارة هنا إلى أن اعتراف الأفارقة بالجمهورية الصحراوية وانسحاب المغرب من منظمة الوحدة الأفريقية والخلاف المستحكم بين الجزائر والمغرب يعد إحد العقبات التى وقفت حجر عثرة في تطور وانسياب التعاون العربي الأفريقى.
ولكن :
ومع سوداوية المشهد، وعوداً إلى ما قطعته على نفسى في مطلع هذه الورقة من التصدي لمقولات المستيئسين من أن تفلح الجهود فى تحقيق علاقات ناجزة، أقول إن أكثر المتشائمين – من الجانب العربي، خاصةً – لو تسنى له أن يقف عند الإمكانات الحقيقية التى ترفد هذه العلاقات، ثم استصحب معه العاطفة الأفريقية الجياشة تجاه المنطقة العربية، تلك التى طالما عهدتُها لدى كثير من الأفارقة قادةً وأفراداً، ثم لو أنه أتبع ذلك بالتأمل فى الأبواب التى توصد يوماً إثر آخر فى وجوه عواصمنا. ليتضاءل- إثر ذلك- الحظ الإستراتيجي العربي، مع ازدياد الخطر الإسرائيلى .. أقول:لو تسنى كل ذلك، لكان الأمل فى فلاح العلاقات مع أفريقيا أمراً حافزاً لبذل كل غالٍ في: سبيل ترقية الصلات..
لقد كان السبب الرئيس فى تدهور هذه العلاقات – كما تبدى لنا – هو اكتفاء الجانبين بالبعد السياسي وحده دون غيره من أبعاد، لذلك وجد الجانبان نفسيهما فى صحراء قاحلةٌ من الصلات، حين انكسر مبدأ الصراع العربي – الإسرائيلى، فى ظروف أفلحت فيها حركات أفريقيا التحررية في نيل حريات بلادها، ليتلفت الفريقان – من بعد- فلا يجدان قضيةً يلتقيان عندها، ولا مصلحةً ملحةً يندفعان صوب تحقيقها!!!
أقول ذلك، ولا أنكر جهوداً جبارةً تحاول بها الجامعة العربية والإتحاد الأفريقى تجسير الهوة الواسعة، كالجهود التى بذلت في القمة الأفريقية العربية الثانية، التى عقدت بليبيا في أكتوبر 2010، رغم العموميات التى اتسمت بها قرارات القمة. فمن بين ست وسبعين توصية جاءت في الإعلان الختامي للقمة ، حظيت القضايا السياسية وقضايا النزاعات بأغلبها. كما لا أنكر جهود المؤسسات البحثية المختصة بدراسة الشأن الأفريقي، وبوجه خاص، فى مصر، و فى السودان حيث تقف اليوم جامعة أفريقيا العالمية بالخرطوم -التى أتشرف برئاسة مجلس أمنائها – وبها سبعة آلاف طالب وطالبة من أكثر من أربعين دولة أفريقية يتعلمون بالمجان فى كلياتها المختلفة بما فيها من كليات علمية كالطب والهندسة والصيدلة وعلوم الحاسوب ، فتنهض كخير شاهد ودليل على اهتمام السودانيين بأفريقيا وبأبنائها. غير أنها جهود تصادف مقاومةً شرسة من بعض بؤر الانتماء العنصري، كما يتبدى جلياً فى المخطط المناوئ للعروبة والإسلام ، ذلك الذى يتولى كبره بعض الرؤساء الأفارقة، فلا ينفك من نفخ أبواق العداء، وإثارة النعرات، وإذكاء نار العنصرية، قاطعاً على نفسه عهداً بأن يحول بين العرب وأفريقيا، منادياً بعودة كل ذى أصل عربي إلى جزيرة العرب، وترك أفريقيا للأفارقة، على حد تعبيره، وهو مخطط تسانده مراكز ومؤسسات غربيةٌ وأفريقية ، ويحسن بنا أن نتنبه جميعاً إلى خطورة مآلاته ومآلات دعوات أخرى تشابهه، تثور بين الحين والآخر، فى أنحاء متفرقة من دول أفريقيا جنوب الصحراء..
وبرغم كل ذلك، واعتداداً بأن ثمة أرضاً صالحة لإنماء العلاقة، فإن الشواهد لدى تترى فى إمكانية فعل الكثير، وأكثرها عندي وضوحاً: حالة الأزمة فى دارفور، تلك التى استفحلت نتيجةً لمؤامرة عالمية أتقن ناسجوها حبكها لتحقيق غايات متعددات فى آن واحد، كان من ضمنها – ولا شك- ضرب العلاقة العربية الأفريقية فى أعز مواطنها وأغلاها، فى السودان على وجه التحديد، الذى تلتقى عنده دماء الطرفين فتمتزج وتهبُ التواصل مزيداً من الحياة.
لقد كان بوسع أزمة دارفور، لولا وعي الأفارقة وإدراكهم، أن تنهى الوجود العربي فى وسط القارة الأفريقية، لان الوتر الحساس الذي حاول الإعلام الغربي الضرب عليه هو أن الأزمة المشتعلة فى هذا الإقليم هى حربٌ بين العرب والأفارقة، لذلك كانت مصطلحات مثل الجنجويد، والتهجير، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية، مصطلحات تجد لها بيئة عطنة في أجواء المؤامرة فتستشري ويتعالى صداها..
كان من المتوقع والحال كذلك.. أن يكشف الأفارقة عن وجهٍ سافر العداء للسودان وحكومته، فتزداد النار اشتعالاً، وتقضى على الأخضر واليابس.. غير أن حكمة القادة الأفارقة مع زهد الشعوب فى مقولات الغرب وسياساته، أدى إلى قلب المعادلة، لتبدي دول القارة للسودان مناصرةً غير مسبوقة، أبانت بها من التعاطف ما أعاق كل المخططات الغربية وقادها إلى الفشل، بما فيها جريرة محكمة الجنايات الدولية التى أصيب مدعيها العام بالحيرة والاندهاش وهو يشهد الصلابة الأفريقية فى وجه الاستعمار الجديد، فيتساءل عن سر هذا الموقف، رغم تدفق المغريات أمام الحكومات الأفريقية للعدول عنه، فتتسارع الدول الأفريقية الأعضاء فى المحكمة إلى دعوة الرئيس البشير لزيارتها متحدية بذلك تهديد و وعيد المحكمة والدول الغربية التى تقف وراءها.
هذا شاهدٌ واحدٌ .. وغيره من الشواهد عديد .. ليس أقلها ما خبرته بنفسى وأنا أتنقل العام الماضي بين أكثر من دولة من دول الوسط الأفريقي ومنطقة البحيرات، فأشهد كم هو عميقٌ وراسخٌ الأثر الحضارى الذي خلفه الإسلام في تلك الأصقاع النائية، ولقد أحزنني كثيراً وأنا أنظر إلى الحماس الدفاق فى تلك الوجوه السمراء صوب مآثرنا الحضارية، مع قصور ذات يدهم، إذ كل مطامحهم أن تنهض مدرسة هنا أو معهد هناك لتعليم أبنائهم .. وما أقل المطلب وأعزه فى آن !!
العلاقات .. والربيع
أخلص من كل الذي سردته فى تبيان أزمة العلاقة بين العرب والأفارقة، إلى أمر مفصلي فى هذه الورقة ذي صلة وشيجة بالافتراضين الأساسيين اللذين انطلقت منهما، والمتمثلين فى أن ثمة واقعاً جديداً تفرضه ثورات الربيع العربي.. وأن ثمة ( إشكالاً) نأمل جميعاً تجاوزه فى ضوء ثورات الربيع العربي.. وعند هذا المنعطف، تبرز أسئلة أساسية، تتطلب منا جميعاً إجاباتٍ حاذقةً، وهى أسئلةٌ من قبيل :
أولاً : هل تُعد تطورات ثورات الربيع العربي – نفسها – أمراً ايجابياً فى سياق العلاقة بين العرب والأفارقة ، أم أنها تطورات تحمل فى ثناياها أبعاداً سلبية، استناداً إلى مظاهر هذه الثورات ومستجداتها؟
ثانياً : هل يعي الجيل الجديد (أعني جيل الربيع العربي) أهمية العلاقات العربية الأفريقية؟ بمعنىً آخر، لئن كان جلُ الجانب الإيجابي فى الصلات بين الجانبين مرده إلى مبادرات شجاعةٍ ومسئولةٍ من جانب القادة العرب التاريخيين، بما رسخ من الاعتقاد بجدوى هذه الصلات، فهل يتمثل جيل الثورات العربية ذات الإدراك القادر على حفز هذه الصلات؟
ثالثاً : ما هى السياسات التى يتطلبها واقع العلاقات العربية الأفريقية، لكى تتخذ هذه العلاقات منحىً يجنبها إشكالات الماضي وعوائقه؟
رابعاً : هل من المتوقع – مع تعدد بؤر صنع القرار الذي يفرضه واقع المؤسسات الديمقراطية المستحدثة – أن تنعم العلاقة مع أفريقيا بأولويةٍ مدركةٍ وفهمٍ مستدام؟ أخذاً فى الحسبان أن الأنظمة الشمولية السابقة – ولدواعي الحفاظ على ذواتها وسياساتها – لم تغفل أهمية السند الأفريقى لسياساتها ( مصر فى عهد مبارك ليبيا فى عهد القذافى – نموذجاً) مستفيدةً فى إقرار هذا التوجه من مركزية القرار ومحدودية مؤسسات صنع القرار!!
إن الإجابة عن هذه الأسئلة سوف تحمل فى طواياها إيضاحاً وافياً لموضوع هذا المنتدى، ولنحقق ذلك، يتوجب علينا أن نستقرئ السمات العامة لثورات الربيع العربي، والمتوقع من سياساتها، ثم طرح السبل الأرشد لتحقيق الغايات.
سمات ثورات الربيع العربي
تتسم ثورات الربيع العربي بعدد من السمات العامة، يمكن تلخيصها في ما يلي:
إن إدراك هذه السمات من شأنه أن يوضح رد الفعل من الطرف الآخر (الأفريقي)، ومن ثم فإنه يمكن من استبانة النمط الذي سيؤول إليه مسار العلاقة.
ففيما يتصل بالطبيعة التمددية لثورات الربيع العربي، يمكن القول اليوم – أي بعد مضي عام كامل - إن انسياب الثورات فى المنطقة العربية كان يتوقع له البعض أن يمتد إلى الأقطار الأفريقية، بل ذهب البعض – مثل الكاردينال بيتر تركسون رئيس المجلس البابوي للفاتيكان – إلى المناداة بضرورة انتقال الثورات العربية إلى جنوب الصحراء، انطلاقاً من ( مفهوم البحث عن العدالة الاجتماعية) إذ ترزح بعض الدول الأفريقية تحت حكم لا يرعى لهذا المفهوم حقه.
وفى ذات السياق، وتخوفاً من امتداد تاثير ثورات الربيع العربي، تخوفت بعض الحكومات الأفريقية من ذلك التمدد فعمدت إلى اعتقال بعض مواطنيها بتهمة الخيانة جراء تجمعهم لمشاهدة أشرطة مصورة لأحداث الثورة المصرية، في ما روته الأخبار.
فهل صحيحٌ أن هذه الثورات بطبيعتها التمددية ستصل دول جنوب الصحراء؟ الإجابة بنعم ولا !! (نعم) لأنه لا يوجد حقيقة مايحول دون انتقال التأثير، أما (لا) فلأن الطبيعة القبلية للمجتمعات الأفريقية هى أساس النزاعات الداخلية، قبل البحث المطلبي عن الحرية والعدالة، كما الأمر فى الحالة العربية، نقول ذلك وفى أذاهننا الصراعات المستحدثة في الكونغو، وساحل العاج، وكينيا وجنوب السودان .
أيضاً الأجابه (بنعم) و (لا) لأن أفريقيا اليوم ليست أفريقيا قبل ربع قرن من الزمان.
فقبل أكثر من ربع قرن تجسد لنا واقعة شهيرة الحالة السائدة، وأعني بذلك مخاطبة السيد الصادق المهدى رئيس وزراء السودان وقتذاك للقمة الأفريقية بأديس أبابا عام 1986، وقد عاد للحكم عبر انتخابات ديمقراطية بعد حرمانه من السلطة لفتره ستة عشر عاماً (فترة حكم الرئيس جعفر نميرى) والرد على خطابه من قبل أحد القادة الأفارقة ، فقد خاطب السيد الصادق المهدى القمة قائلاً : إن حكومتى قد جرى اختطافها لمدة ستة عشر عاماً
(My government was hijacked for 16 years )
فرد الرئيس موقابى ضاحكاً سيدى رئيس الوزراء كل هؤلاء الموجودين فى القاعه مُختطِفين : (Mr. Prime minister all these are hijackers).
أما اليوم فالوضع مختلف. فعدد من الدول الأفريقية اتخذ طريق الديمقراطيه والتخلى عن السلطة، إما طواعيةً حسب الدستور، (مثل مانديلا فى جنوب أفريقيا ، وسيشانو فى موزمبيق) أو للهزيمة فى الانتخابات، (مثل أمبيكى فى جنوب أفريقيا وكنيث كاوندا فى زامبيا) ، فرغم عظمة هؤلاء القادة وتاريخهم النضالى إلا أن ذلك لم يغرهم بالبقاء فى السلطة، احتراماً للدستور والديمقراطية، وعملاً بمبدأ التداول السلمى للسلطة. هنا نقول (لا) لا حاجة للربيع العربى، لكن نقول (نعم) لأن البعض ما زال يتحايل على الدستور ويقوم بتعديله للبقاء فى سدة الحكم، كما حدث فى النيجر وغيرها من الدول الأفريقية. وفى البعض الآخر ما زالت الأنظمه الشمولية مستمرة فى السيطرة على مقاليد الحكم واحتكار خيرات البلاد.
ولقد أجرى الكاتب الصحفى سكوت بالدفولد فى صحيفة ، كريستيان ساينس مونيتور فى عدد 2/1/2012، مقارنه بين ما جاء فى مجلة "ذى إيكونمست" البريطانية حول مستقبل القارة السمراء فى عام 2000، وبين حال أفريقيا اليوم ، حيث اعتبر تقييم ذى إيكونمست عام 2000، أفريقيا حالة ميئوساً منها. بينما كتب أسكوت بالدفولد عن حالة أفريقيا اليوم قائلاً "أفريقيا اليوم تشهد نهضة يصعب إنكارها حيث التقدم السياسى والأقتصادى فى عدد من بلدانها وظهور قيادات أقل فساداً من قبل، وتنامى روح المبادرة الحرة وظهور شراكات جديدة تستند إلى مناخ أفضل للقيام بالأعمال. فالسنة المنقضية حملت معها مؤشرات جديدة عن بعض إرهاصات التغيير فى القاره السمراء ومجابهة مشاكلها الخاصة. فقد رأينا كيف بدأ الأتحاد الأفريقى يتحمل مسئولياته دون تدخل خارجى ، ويتبنى مواقف مستقلة فى معالجة المشاكل الاقتصادية والعسكرية ، ترفض السماح بتدخل القوى الغربية فى الشئون الأفريقية والاعتماد بقدر الأمكان على الأمكانات الذاتية فى فض النزاعات وتسوية المشاكل. وقد تبدى ذلك فى جهود الوساطة الأفريقيه لفض النزاع فى ليبيا، وإن لم يحالفه النجاح، وجهود الاتحاد الأفريقى فى دارفور وفى الصومال).
أمرٌ آخر تجدر الإشارة إليه هنا، وهو دور الجيوش العربية فى إنجاح الثورات العربية، خاصةً فى تونس ومصر، اللتين تمتلكان قواتٍ مهنيةً محترفة، على غير الحال فى ليبيا حيث لا يوجد جيش، وفى اليمن حيث انقسم الجيش نتيجة التأثيرات القبلية، أما فى سوريا (فالجيش مسيس) ، على عكس ذلك، الحال فى أفريقيا، إذ نجح الأفارقة إلى حد كبير فى تحييد الجيوش من الاستيلاء على السلطة من خلال قراراتهم الخاصة بعدم الاعتراف بالانقلابات العسكرية.
أما السمة الثانية (الطبيعة الشعبية): وهى العامل الأظهر فى ثورات الربيع، فمن المأمول أن تمنح العلاقات بُعداً أكثر عمقاً ومصداقية، إذ يتوقع للمكونات الشعبية العربية، بما تتميز به من جرأة ومبادأة، أن تلتقى مع طموحات وآمال كثير من المكونات الشعبية والمنظماتية الأفريقية، أقول ذلك وفى ذهني تجربة السودان المعتبرة فى هذا المجال، تلك التى آتت ثمارها تلبيةً لنداء السودان فى أزماته الأخيرة، وبخاصة قضية المحكمة الجنائية الدولية. وفى ذهنى أيضاً زيارة الوفد الشعبى المصرى بقيادة حزب الوفد بعد الثوره مباشرة لأثيوبيا الأمر الذى كان له إنعكاساته الأيجابية على العلاقات المصرية الأثيوبية التى ظلت متوترة بسبب مياه النيل.
أما السمة الثالثة ( الطبيعة الأيديولوجية) : وأعنى بها تقدم التيار الإسلامى فى كل أقطار الربيع العربي، وهو عاملٌ ربما ظنه البعض مقلقاً فى سياق العلاقة مع أفريقيا، انطلاقاً من الحذر المتراكم خلال العقود المتأخرة من تنامي الظاهرة الإسلامية، لا سيما وقد استصرخ بعض القادة الأفارقة المجتمع الدولي- مؤخراً – من تمدد شبكات القاعدة بعد الربيع العربي، خاصة مع ملابسات ما جرى فى نيجريا إثر التفجيرات الأخيرة لجماعة (بوكوحرام)..
أقول إن هذه النقطة – بالذات – ذات وجهين محتملين، الأول – ولكى لا نظلم التيار الإسلامى المعتدل المتقدم – ينبغى علينا التفرقة بينه وبين المجموعات المتشنجة ذات الخبرة المحدودة فى الصراع والعمل السياسيين .. فتيار الإسلام المعتدل فى مصر والشام واليمن والمغرب العربي، هو تيار عقلانى خبير بلعبة السياسة، ومدرك لمعاني التعددية، ومن هذا المنزع، فلاخوف ولا قلق ..، ولي هنا أن استشهد بما ذكره الصحفى الشهير توماس فريدمان فى مقالةٍ له أوردتها صحيفة الشرق الأوسط، إذ قال :(إن إفتراض عدم تأثر الاسلاميين، أو تحولهم للاعتدال، نتيجة توليهم مسؤوليات السلطة، ونتيجة ضغط مراكز القوى المتنافسة الجديدة فى مصر، ونتيجة الأولية التى يضعها الرأى العام بضرورة توفير فرص وتكوين حكومة نزيهة، هو افتراض يفتقد الرؤية الواضحة لديناميكية السياسة المصرية فى الوقت الحالي).
رغم ذلك يقينى بأن الغرب الذى فقد مصداقيته بدعمه للأنظمة الدكتاتورية التى أزاحتها ثورات الربيع العربى ورغم أنه لم يعد فى مركز يؤهله لتقديم المحاضرات لأن أنظمتهم السياسيه مستنزفه الى أقصى حد بسبب سؤ الوضع الأقتصادى وميزان القوى العالميه المتحول. وفشل المؤسسات الماليه الغربيه ، إلا أنه سيواصل جهوده فى محاولة إحتواء ثورات الربيع العربى وتخويف الشعوب الأفريقيه من التيارات الأسلامية الصاعدة مهما كانت عقلانيتها وأعتدالها.
أما الوجه الآخرمن هذه المسألة، (وهو مثار التحدى الحقيقي)، فيكمن فى القدرة على إقناع الأفارقة بذلك التوجه العقلاني، لا سيما وأن تأليباً مكثفاً سينجم فى مدارات العلاقة منطلقاً من مراكز لن يريحها البتة اندماج التواصل بين الجانبين..
غير إنه من واقع البعد الأيديولوجي الإسلامي سينتظر القوى القادمة الكثير فى ما يتصل بالحد من التغلغل الإسرائيلي – الذي وجد له فى ظروف الانشغال بثوراتنا، وانفصال جنوب السودان، مراحاً ومسرحاً شبه خالٍ- واسمحوا لي أن أشير هنا إلى المقالة المتميزة التى كتبها مؤخراً المفكر الكبير الأستاذ فهمى هويدي إثر الزيارة التى قام بها رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت لإسرائيل وأعلن فيها صراحة شكره للدولة الصهيونية على الدعم الذي كان نتاجه الانفصال، يقول السيد هويدي (فى مختتم مقالته، سألت الدكتور حسن مكي رئيس جامعة إفريقيا العالمية في الخرطوم عن تقييمه للزيارة، فقال إنها تحصيل حاصل، فقد رعت إسرائيل التمرد في الجنوب من البداية، بحيث لم يعد قادرًا على أن يستمر كدولة إلا إذا كان مستندًا إلى دعمها. حيث كل القادة العسكريون الجنوبيون تدربوا هناك كما أن الخبراء الإسرائيليين منتشرون في مختلف المرافق والأجهزة الحكومية، والشركات الإسرائيلية مهيمنة بالكامل على صناعة الفنادق وبعض المشروعات الإنشائية الأخرى.
وقال إن الوجود الإسرائيلي في الجنوب إذا كان استهدف بالأساس إضعاف مصر وتهديد الأمن القومي العربي، إلا أنه الآن يسعى أيضاً إلى تثبيت الانفصال عن الشمال وقطع الطريق على احتمال وحدة البلدين.
كما أنه يسعى لإغلاق باب العرب المؤدي إلى قلب إفريقيا والحد من انتشار الإسلام في القارة.
سألته ما رأي حكومة السودان في الموضوع، فرد على السؤال قائلاً:
ما رأي مصر المستهدفة؟ أحرجنى الرجل فابتلعت سؤالي وسكت).
انتهى المقال.
أما السمت الأخير، وهو الطبيعة المطلبية لثورات الربيع العربي، وهو سمتٌ ذو خصوصية، إذا ما اعتبرناه بمثابة الوقود المحرك للثورات، فلا شك أنه سيشكل مقياساً لنجاح الربيع العربي، الذي سعى إلى نيل مطالب لم تكن لِتُنَال بالتمني، مثل العدالة الاجتماعية ، والمشاركة السياسية، واجتثاث الفساد، وابتداع فرص للعمل فى ظروف البطالة المتفشية، إن فلاح الأنظمة الجديدة- ولو جزئياً- فى إدراك هذه المطالب، من شأنه أن يولد احساساً حقيقاً بإدراك المصالح الاجتماعية والاقتصادية، وهذا هو المحك الصادق فى تحقيق الشراكات الاقتصادية، وفتح سوق العمل، وتوفير سبل التبادل المنفعى، تلك المطامح التى أصمت البيروقراطية الكسول آذانها عن تلبتها .. فهل حان موعد انطلاقها مع هذا الروح المطلبي الثائر!!
الخاتمة:
لقد اعتمدت - كمدخل لهذا الموضوع - البناء على حقيقتين قلت إنها ستحكمان موضوعنا هذا، وهما:-
ثم أسهبت في سرد الوقائع وتحليلها انطلاقاً من فرضيتين هما:-
نص المحاضرة التي ألقاها الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل خلال محاضرة عقدت له في مقر المنتدى العالمي للوسطية
د. مصطفى عثمان إسماعيل
وزير خارجية السودان السابق
مستشار رئيس جمهورية السودان
13/2/2012
Search
Add new comment