التقريب أمره محسوم في التنزيل نفياً وإثباتاً. نفياً «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم»، وإثباتاً: «إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا».
هل يهدف الحوار من اجل التقريب الى تحقيق الوحدة، وحدة المذهب أو المذاهب؟ قد تكون الوحدة مطلباً ملحاً، لولا انها في القرآن الكريم نصاً مجعولة بالجعل الإلهي «إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون» وهي نسبية، لأن الوحدة المطلقة او الشاملة، الى كونها مستحيلة، قد تعني تقويض التعدد او التنوع الذي يقرره القرآن «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا»، «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم»، ولعلها مسلمة في كل العلوم ان التماثل او البعد الواحد مرادف للجمود والزوال، من هنا يرتقي الاختلاف الى مستوى الضرورة للإبداع المعرفي والعملي. إلى ذلك فإن قصر التعدد على الوحدة المطلقة يؤدي الى مزيد من التجزئة، لأنه يقوم لدى من يتصدى له في الدين او السياسة على دعوى امتلاكه للحقيقة كاملة، ما يعني ان الآخر باطل يجب احتواؤه أو إلغاؤه. هذه الخلفية كانت قائمة ولا تزال وراء الرؤى الشمولية، أي الأصولية القومية والدينية والشيوعية والليبرالية . بينما في المنظور الإسلامي التوحيدي لا مكان لهذه الإلغائية التي تستلزم العنف في توحيد المتعدد او ضمه على اساس أطروحة احد الأطراف، والعنف المباشر (الجسدي) أو غير المباشر (الفكري) قد ينتج شكلاً وحدوياً، لكن بدل ان يزيل الفوارق الطبيعية يرشحها ويؤججها ريثما تنفجر عنفاً مضاعفاً في أول فرصة أو أزمة. وهذا ما شهدناه مثلاً في الاتحاد اليوغوسلافي الذي وجد امامه حزباً واحداً ومجتمعات متعددة، فحاول ان يوحد على طريقته، أي من خلال قمع أو إزالة الفوارق الطبيعية في الدين بين المسلم والمسيحي وفي المذهب بين الكاثوليك والأرثوذكس، وفي العرق بين البوشناق والألبان والكروات والصرب، من دون ان يخفى ان عملية التوحيد إنما كانت محاولة لتغليب الصرب على الكروات والكروات والصرب على غيرهم... هذا المسلك التوحيدي التفجيري في المحصلة هو الذي ادى الى انفجار العنف العشوائي في يوغوسلافيا ممهداً للتدخل الخارجي. هذه خلاصة يمكن تعميمها على مجموع تجارب المنظومة الاشتراكية... وعلى هذا فإننا اذ نعمل على التقريب بين المسلمين لا نهدف الى تحقيق الوحدة الشاملة، لأن هذا يغري بعض العاملين، بتسنين الشيعة أو تشييع السنة أو تعريب الأكراد مثلاً، وكأن المذهب الآخر دين آخر، هذا على رغم مما في التسنن والتشيع من مذاهب، فأي مذهب نختار؟ وأي مذهب نلغي؟ وهل نتفق على صيغة ملفقة بين المذاهب أم نترك للعلماء الموضوعيين مهمة توسيع المساحة المشتركة بين المذاهب وتضييق مساحة الاختلاف من دون ان نتورط في محاولة إلغائه التي تعني إلغاء مصدر اساسي للحيوية الفكرية الإسلامية؟ وإذا كانت الحرية شرطاً إنسانياً وربانياً فماذا نفعل بالذين يتشبثون بمعتقداتهم «أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين». لقد احتاط الإسلام لهذا المسلك القاتل عندما جعل التعدد والاختلاف في مصاف الإرادة التكوينية ودليلاً على حكمة المدبر وحسن التدبير «ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين»، من دون ان يتخطى الوحدة العميقة التي تجمع هذا المختلف (الأمة الواحدة). وعليه فالمرتجى من مساعي التقريب هو الوقاية من تحويل الاختلاف الى خلاف فصراع، لأن ذلك يفقد الجميع وحدته ليعود فيفقد كل طرف منه وحدته كذلك. هذا ما ذقناه في لبنان عندما تقاتل المسيحي مع المسلم ثم تقاتل المسيحي مع المسيحي والمسلم مع المسلم والشيعي مع الشيعي والسني مع السني الخ. وهذا يعني ان أمن أو ازدهار أي جماعة إسلامية مشروط بالجماعات الأخرى التي هو شرط لها ايضاً.
إن المنظور العلمي الإسلامي يضع الوحدة المتحققة في الاجتماع الإسلامي بصرف النظر عن المجال السياسي، في موقع الثابت الذي لا تؤثر المتغيرات في وجوده وإن أثرت في تنميته وتثميره.
من اجل حفظ هذا التناغم والتكامل بين الوحدة والتعدد يجب الشغل الدائم والمنظم على التقريب منعاً لإلغاء طرف بطرف، ولا مانع، بل هناك مقتضٍ، لتقريب المسافات في الفكر والسلوك بين الجماعات الإسلامية، أي تنشيط عوامل الاندماج في كل بلد إسلامي أو عربي بحسب ظروفه. وهنا ندخل في العملية السياسية بما هي بناء للمجتمعات الوطنية والإقليمية على موجب عوامل الوحدة في نسيجها وموجب مصالحها. أي ندخل في دور الدولة التي ترعى التعدد وتكون ركيزة وحدته، وتقبل الاعتراض بشرط ان يتخطى فرضية تقويض الدولة الى ترسيخها وتسديدها بالاعتراض والحوار معاً.
لقد وعدتنا القوى القومية التي أسهمت في إسقاط الدولة العثمانية بالوحدة أو الدولة- الأمة، وكانت النتيجة اننا لم ننجز دولتنا الوطنية او القطرية (بحسب الأدبيات الحزبية القومية)، ولم ننجز الدولة القومية. والأقطار العربية التي لم تقع في هذا المنحى كانت أقل خسارة من الأقطار التي رفعت الشعار القومي وانتهت الى توظيف القومي في القطري وفي شكل سلبي كان احتلال الكويت أبرز تداعياته وأقساها. وحرصت دول الخليج العربي مثلاً على عروبة الانتماء التي تتسع لغير العرب ولا تضيق بغير المسلمين من العرب (المسيحيين مثلاً)، وأسست عليها حالة تضامنية تكاملية من خلال دول وطنية ناجزة هي مجموع دول مجلس التعاون الخليجي، التي كان يمكن ان يكون لها رديف في الاتحاد المغاربي أو وادي النيل أو بلاد الشام من دون تورط في فكرة القومية السورية... وعليه فالواقعية القومية وعروبة الانتماء ادت الى التضامن، واللاواقعية ادت الى مزيد من الشتات وتبادل المشاكل وتداولها، وشهدت الأقطار قومية الاتجاه حالات حادة من الصراع (مصر وسورية بعد الوحدة) سورية والعراق، ليبيا مع مصر وسورية والعراق والجزائر والمغرب الخ، وكانت تجارب الوحدة المرتجلة إمعاناً في التيئيس من الوحدة.
على المستوى الإسلامي نحن بحاجة الى التقريب باعتباره الممكن، اما الوحدة بمعناها الشامل فهي تؤول الى تفكيك اللحمة الوطنية. وزعزعة الدولة الوطنية ركيزة الوحدة الأولى عملياً، وتؤدي الى التماس الاندماج المستحيل في أقوام أخرى، على أساس الجامع المذهبي، الذي لا يكفي في السياسة لأنه استبعاد للبعد العربي الذي لا يفرقنا عن بقية المسلمين إلا اذا تجاهلناه تماماً في حالنا ولدى غيرنا، وأنه لجدير بالانتباه ان تكون اذربيجان الشرقية – باكو، مثلاً متوازنة حتى الآن بين تركيا وإيران، أي بين الجامع الإثني والجامع المذهبي مع رجحان نسبي للجامع الإثني ، وهنا لا بد من الانتباه الى ان بعض الأقطار العربية والإسلامية تعاني سراً وعلناً من غلبة قومية على اخرى على رغم وحدتها المذهبية.
إذاً، فالدولة الوطنية، البحرينية او السعودية او المصرية او المغربية الخ، هي المؤسسة الضامنة، والحاضنة لكل مكوناتها وإن تفاوتت النسب احياناً، فإن الحوار المدني مع الدولة هو الذي يقرب هذه النسب، اما الشغل على نقض الدولة فهو يدفع بالمسار الى تداعيات باهظة، والدولة المنشودة والمعدة لتحقيق الوطنية بالمواطنة مع الحفاظ على اواصر الوحدة العابرة للوطن نحو المدى العربي او الإسلامي، هي دولة الأفراد التي لا تلغي الجماعات العرقية او الدينية او المذهبية، ولكنها، بالقانون، تضبط الخصوصيات بالعموميات الوطنية، أي بالاندماج والحق والدستور والحرية المسؤولة وحق الاعتراض من دون تقويض الدولة التي لوجودها اولوية على عدالتها المطلوبة دائماً.
ولا بد لدولة المواطنة من مواطن ينتمي الى وطن ويكتفي به ويطل على غيره على اساس ان وطنيته تحترم الوطنية الأخرى وتلزم هذه الوطنية باحترام وطنيته.
وعليه فلا يجوز استخدام الجماعة العرقية أو الدينية أو المذهبية، تحت أي ذريعة، في تفكيك الدولة او زعزعة الإيمان بها، لأولوية الدولة بما هي نظام عام (لا بد للناس من امير) في المشروع الحضاري الإسلامي الذي تعني حضاريته ودعوته الى التحضر ان يكون المواطن في مدينة تحكمها دولة هي من شأن الاجتماع الذي لا بد من ان يتعامل معها كمضمون ثابت وشكل متغير، أي انه لا يجوز الذهاب الى الجماعة بديلاً للدولة بشرط ألا تستقوي الدولة على المجتمع، لأن ذلك يغريه بالاستقواء عليها ليسقطها على رأسه ويسقط على رأسها، كما حصل في لبنان في الحرب، وكما عرض اغتيال حامل مشروع الدولة بعد الحرب الشهيد رفيق الحريري، عرض الدولة والمجتمع ثانية الى تبادل الإسقاط، لولا اننا مطمئنون لامطلقاً الى ان اللبنانيين لم يعودوا، على رغم التوتر الظاهر، راغبين في العودة الى الفتنة والسماح باستغلال الدين والمذهب في تغطية الجرائم العظمى التي ارتكبت خلال ثلاثة عقود. وهنا يظهر دور العلماء والمفكرين والمثقفين والإعلاميين الذين يواكبون الدولة قبولاً واعتراضاً من اجل السداد ويحترمون نزوع الاجتماع الوطني الى اكتشاف قيمه المشتركة ومصالحه المشتركة وتأسيس عيشه المشترك وتجديده عليها تحت رعاية الدولة. على انه هنا لا بد من تنبيه المفكرين الحداثيين الى خطر إهمال المسألة الدينية مرة اخرى، ما عطل التقارب وأفسح مجالاً للتطرف، كما ان علماء الدين معنيون بالحفاظ على دينهم ومذاهبهم معاً، وهذا لا يتم بالقطيعة التي تهدد الوحدة، لأن النزاع غير العلمي، أي العصبي، يؤثر سلباً في الأنظومة العقدية، حيث تمضي الجماعات المتنازعة الى تعظيم الفوارق الطبيعية وتوليد الفوارق غير الطبيعية، أي المغالاة المذهبية، ما يؤدي بالفقه رغماً عنه الى إنتاج الأحكام الخلافية. الى ذلك فإننا لا بد من ان نشتغل معاً على الرقي بالمجتمع الأهلي الى حالة من المجتمع المدني التعددي الذي يضارع الدولة ويحاورها ويعترض عليها تحت القانون، وإلا تركنا مجتمعنا الأهلي عرضة لتحويل العصبية المذهبية بديلاً للمواطنة، واستتباعاً لا بد من ان نتفق على تبرئة اختلافاتنا الفقهية القائمة بين الجميع وداخل المذهب الواحد، من تهمة أو دعوى انها توجب او تغطي صراعاتنا الدموية. إن فرصة التكفير هي أضيق الفرص في نظامنا المعرفي الإسلامي الذي يقوم على تعدد المعرفة بالدين والفقه وعدم إلزاميتها وتصحيح مسلك المختلف.
ختاماً أذكر وأذكّر بما جربناه في لبنان حرباً، فكانت خسائر كل الطوائف اضعاف ما كان يمكن خسارته بالتسوية والتنازل سلماً، ولكننا لم نفعل، وانفتح الداخل على الخارج واستخدم الدين والمذهب لتأجيج الصراع وأدلجته وإطالة أمده ومراكمة بشاعاته.
أردت أن أقول ان الحوار والتقريب والاستقلال والسيادة والوحدة الوطنية والعيش المشترك او الواحد هي امور مطلوب انجازها باستمرار وهذا الإنجاز لا يتحقق إلا بالتكامل بين ادوار ثلاثية الدولة والمجتمع وأهل العلم، كل علم، مدني أو ديني. وعلى علماء الدين ان ينتبهوا الى هذا الشأن قبل غيرهم.
هاني فحص
5/10/2006
ابحث
أضف تعليقاً