wasateah
المنتدى العالمي للوسطية
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً
عدد الزوار page counter
العقل المهزوم في الفكر الإسلاميّ
الاثنين, December 9, 2013 - 02:45

هل يملك المُسلم المُعاصر أنْ يقولَ شيئاً ذا جدوى عن مُستقبلٍ لا يراه؟ ذلك أنَّ الصعوبات التي تواجه التفكير بهذا الأمر لا حَصْرَ لها، وزادُ المُفكّر والمُثقّف والعالم المُسلم فيها قليل، غير أنَّ الاجتهاد في هذا السياق ليسَ ممّا يمكن تجاوزه، فمناط المُستقبل ذو علاقة واضحة برصد الواقع، وبيان العلاقة بين الوسيلة والغاية، واستشراف أحوال المُجتمع في قابل الأيام، وهذا ما جعل تاريخ الفكر الإسلاميّ يتبلور في عدّة أُطر منذ بدايته حتى هذا الوقت.
   فقد أتى على المُسلم حينٌ مِنَ الدهر سيطرَ فيه القلق والتوزّع، وفقدان الفاعليّة، والانكفاء، وضعف المُبادَرة، والاجترار التاريخيّ من زاوية، واتّساع رقعة التوثّب والمُغامَرة من زاوية أُخرى، وفي الحالتين كانت النتيجة أنَّ تفكيرنا طغى عليه الطابع السحريّ لا العقلانيّ، وبَرَزَ بوضوح أنَّ القطيعة الفكريّة بين المُسلم وشريعته وصلت إلى أقصى أشواطها.
  

 

ومن لوازم الحقيقة والموضوعيّة القول بأنَّ العقل المُسلم تَنازَعَهُ الاتجاه الاتِّباعيّ القائم على إلغاء العقل ذاته، والسخط الكبير على قيود المُجتمع الجديد وضلاله، ورفض أي حاضرٍ يخرجُ عن مُخطَّطات الماضي، واتجاه عصر النهضة الذي كرَّسَ مفاهيم التوفيقيّة واللاحسم في الفكر الإسلاميّ، وبالتالي سادت إشكاليات الإيمان والعقل، والأصالة والمُعاصَرة، والتراث والتجديد، والاستقلال والتبعيّة، وهو ما جعل هذا الفكر ينتقل من الأُحاديّة إلى الغربة عن نفسه، وعن هموم المُجتمع المُسلم في آنٍ معاً.

 

  وبصورةٍ أدقّ، انقسم العقل المُسلم المُعاصر إلى طرفي نقيض: أحدهما يرفض الحاضر على إطلاقه، والثاني يرفض الماضي على إطلاقه أيضاً، وكانت النتيجة أنَّ روّاد النهضة والتقدّم في مجتمعنا أصبح لزاماً عليهم أن يقاتلوا على عدّة جبهات لإثبات أنَّ المُسلم جديرٌ بأن يرتقي إلى مستوى الشريعة التي تُطالبهُ بأن يكونَ أُستاذاً للبشريّة.

 

  على الصعيد ذاته، فرَضت الازداوجيّة نفسها كإحدى مكوّنات العقل المُسلم، فثمّة – كما يقول الدكتور فهمي جدعان في كتابه أُسس التقدّم عند مفكّري الإسلام – تَقَابُلٌ بينَ عقليّة سلفيّة تُراثيّة ثبوتيّة، وعقليّة تجديديّة تحويليّة، وثمّة تردّد بين المثالية والواقعيّة، المثاليّة تشدُّ الواقع إلى مثالٍ تامٍّ وشامل، والواقعيّة تريد احتواء التغيير والأحداث بإعادتها إلى مبادئ عامّة وحسب، وثمّة تقابُل بين راديكالية لا تعرف إلاّ الحلول القصوى والأطراف المتفرّدة، وليبراليّة توفيقيّة تبحث عن الحلول الوسطى والمواقف المرنة، والأنكى من كلّ هذا، ظهور المفارقة الكبرى بين أخلاق "الحَرَج" التي توجّه الأنظار نحو الهاوية والخطيئة والفساد والمعصية والإثم، وأخلاق "الرحمة" التي تجعل كلّ الأخطاء مغفورة.

 

  تلك الثنائية تطول قبل أن يواجه المُسلم نفسه بسؤالٍ مهزومٍ منذ ألف عام: متى يغدو العقل المُسلم واضحاً وفاعلاً وعلميّاً في ظل المتناقضات التي تسكنه بصورةٍ قاسية في مجتمع لا يعرف القسمة على اثنين على الإطلاق؟
  وإذا كانت الإجابة السهلة لسؤالٍ بحجم التخلّف الشامل الذي يطبع حياة المُسلم هي التقدّم، فإنَّ من تمام العدل الإشارة إلى كون التقدّم ليسّ هو المطلب الأساسيّ نحو بناء مستقبل للمُسلمين، وإنما هي إرادة التقدّم، من حيث هي تخطيط واستراتيجيات وزمن، وبالتأكيد وجود مُسلم حقيقيّ من قبلُ ومن بعد، لأنَّ أسس بناء المستقبل ينبغي أن تقوم على تمثّل الشريعة الإسلاميّة، والتعامل مع معطيات الواقع مباشرة، ودمج التراث الإسلاميّ الحيّ في تفاصيل مجتمعنا المُعاصر، وهذا كلّه يقودنا إلى تساؤلٍ آخر: كيف يتحقّق بناء عقل مُسلم قبل مواجهة معركة الاغتراب التي يعيشها هذا العقل بين الأنا والآخر؟

 

بذلك الاعتبار تصبح مسألة "التجذر"، كما يؤكّد الدكتور فهمي جدعان ، هي الإجابة عن سؤال الاغتراب، بمعنى أنَّ "التجذر" هو بقاء العقل ممتدّ الجذور في حياة صاحبه وشروطه الموضوعيّة، لا أنْ تتوجّه داخل أفكار خاصّة بواقع آخر، بل إنَّ تكوّن الجذور الأصليّة هي الإطار المرجعيّ للفكر والعمل.
  هزيمة "الاغتراب" الذي يسيطر على العقل المسلم لا يُمكن أن تتحقّق بصورةٍ كاملة إلاّ إذا أدرك المُسلم المُعاصر، بعقله وسلوكه ومشاعره، أنَّه لا يستطيع أنْ يظلَّ خالصاً لإسلامه وأمّته إنْ هو تمثّل فكر "الآخر"، وأنَّه لن يستطيع كذلك أن يكونَ جزءاً صادقاً من واقع المستقبل إن هو أراد أن يَقْنَعْ بما لديه أو بما وصله من الماضي وحده، وآية هذا الأمر ألاّ يكون التجذّر في الأصول وكفى، وإنَّما تجذّرٌ في المستقبل الذي يسعى المُسلم إليه أيضاً.
 

 

على الشاطئ المُقابل، تبرز قضية الفعل السياسيّ في إطار العقل المُسلم، وهنا تحديداً يغدو العقل السياسيّ في مجتمعنا ضدّ الواقعيّة، والتعدّديّة، والاختلاف، مع أنّه من الأهمية بمكان عدم الوقوع في براثن المفاهيم الراديكاليّة التي يصوغها البعض باسم الشريعة الإسلاميّة، بحيث يصبح قتل "الآخر" حتى لو كان مُسلماً أمراً مشروعاً، ولا يمكن أن تتحقّق هذه المُعادلة في مجتمعنا المُسلم قبل أن تقوم الدولة والمثقّفون والعلماء بتكريس حالة المشاركة بين النَّاس بدلاً من ظاهرة "التفرّد" والانتقال بالإنسان المُسلم من حالة الكسر العَشْريّ إلى مثال المواطن، ومن عادة الاستلاب وعقلية الخنوع إلى آفاق الحريّة والمسؤوليّة، ومن عُقْدة البطل الذي لا يُهْزَم إلى حقيقة الإنسان، قبل أن يتمَّ تحقيق هذه المعادلة فإنَّ أي حديث عن التقدّم والعلم والمدنيّة سيظلّ مجرّد خديعة يقوم بها كلّ مَنْ يُؤسّس مشروعه على حساب استبعاد الشريعة الإسلاميّة عن حياة أبنائها.

 

 

محمّد حليقاوي
منقول عن صحيفة الغد 
بتاريخ: 12/6/2010

أضف تعليقاً

تتم مراجعة كافة التعليقات ، وتنشر في حال الموافقة عليها فقط ، ويحتفظ موقع المنتدى العالمي للوسطية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ولأي سبب كان ، ولن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة أو خروجاً عن الموضوع المطروح ، وأن يتضمن اسماء أية شخصيات أو يتناول إثارة للنعرات الطائفية والمذهبية أو العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث أنها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع المنتدى العالمي للوسطية علماً ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط.

Filtered HTML

  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Allowed HTML tags: <a> <em> <strong> <cite> <blockquote> <code> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd>
  • Lines and paragraphs break automatically.

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.