كانت كل الحقائق التي ذكرت في شأن إشعال الثورات الحالية حقيقية وواقعية. وقد لفتتني وأنا أنظر إلى ما حصل، وبهذه السرعة، ثورة جديدة لم يعطها أحد أهمية: ثورة الإسلام المعتدل الذي كشف فجأة عن أن المتشددين الذين يدفعون المسلمين إلى الانغلاق وعدم مسايرة الحضارات الأخرى. وكشفت الأحداث أن بعبع القاعدة والدعوات الإسلامية المتطرفة هي التي تفرق المسلمين، وهي جهات تمولها الولايات المتحدة لأجل الإساءة الى الإسلام الحنيف ورسالته الإنسانية العادلة، وتجاوبه مع العصر، وكون الدين يسراً وليس عسراً.
ويخطئ بعض من المسلمين باعتقادهم أن العولمة العربية التي ستكون مرتبطة ارتباطا كاملا مع أدياننا السماوية خطر على الإسلام والمسلمين، ولا يدركون أنها سوف تجعلهم يديرون أمورهم الدينية بطرق أصلح وأسلم، برجال الدين الأكفاء من الشباب الذين درسوا الفقه الإسلامي دراسة وافية، وأصبحوا من العلماء الذين لهم باع طويل في التعمق بأصول الدين التي تتناسب مع أصولهم ومع العادات العربية والتقاليد وكل الموروثات الصالحة في تاريخنا.
إننا شعب من شعوب هذا العالم، ملزمون بأن نتعامل مع الدول الأخرى بشكل عصري وحضاري، وأصبحت تربطنا مصالح كثيرة مع الآخرين، ولن نحل مشكلاتنا إلا إذا استعملنا العقل المتطور المتحضر لنتعامل مع هذا الكم الكبير من الدول والثقافات. ويجب أن تكون قراراتنا في مستوى المسؤولية مثل تركيا مثلاً. فالأتراك أناس متمسكون تماماً بفرائض دينهم، وإيمانهم موصول مباشرة مع الخالق، ومعظمهم يعملون حسب ما يراه الدين الحنيف مناسبا ومعقولاً. ولا يجب أن توهمنا بعكس ذلك جوانب سلبية في المسلسلات التركية التي تعكس صور فئة قليلة جداً في المجتمع التركي، وهنالك أمور كثيرة أخرى يمكن أن نتعلمها من هذه المسلسلات، مثل احترام الأتراك لدينهم وعاداتهم وتقاليدهم، والحب الكبير بين أفراد الأسرة الواحدة، وهي أمور تجعل كلها من هذه الدولة الإسلامية أحسن مثال، وتعطيها الرونق الجميل عندما يظهر رئيس الجمهورية التركية ومعه السيدة عقيلته بحجابها الذي يعطيها الحشمة والوقار.
هذه الثورات التي نراها في الدول العربية المختلفة يقوم بها رجال ونساء مسلمون عاديون، ولا نرى فيها هيمنة لأي جماعة إسلامية مسيسة، ولم نر فيها أعلاماً أميركية وإسرائيلية تحرق، وإنما مواطنون يؤمنون بأن حكوماتهم قد هدرت كراماتهم، ونكلت بشبابهم، وسرقت ثروات بلادهم. ورأينا الكثيرين منهم مواظبين على أداء الصلاة في وقتها، متمتعين بسمو عال في الأخلاق والمعاملة، ويعملون كفريق واحد. وقد حافظ المتظاهرون على الممتلكات العامة، ووقفوا صفا واحدا أمام المتاحف الرئيسة، وكان تعطشهم للحرية دافعهم الأساس. وكانت هتافاتهم تقول إنهم يريدون حكما عادلا شريفا نزيها لا يميز بينهم.
إن الشباب المؤمن مندفع لتصحيح الأمور في تلك البلدان، وليفرض على حكوماتها التغيير وإنهاء مدة خدماتها التي واكبت أعمارهم بطولها وأكثر، وظلمت الكثيرين منهم وشردتهم في كل بقاع الأرض لأن قيادتها تعتبر أن المواطن أصبح عبئا على الدولة، وتشجعه على الهجرة والغربة. وقد أدرك هؤلاء الشباب والشابات أن تلك الأنظمة ديكتاتورية غير حكيمة ولا عادلة، فهبوا جميعا لاستعادة كرامتهم المهدورة، وخرجوا إلى الشوارع يطالبون بالحرية. ولم يطالب أحدهم بأن يكون الدين جزءا من الدولة، ولم يريدوا أن يحكمهم أصوليون من أي اتجاه، وإنما أرادوا الحرية والعيش الأفضل، بما لا يختلف عن جوهر الدين والثقافة، وقد حققوا ذلك.
ترى هذه الموجات المندفعة من شبابنا وشاباتنا أن الدين لله والوطن للجميع. والوطن والوطنية لا يباعان ويشتريان، وحقوق الأفراد والجماعات هي للجميع مهما كانت انتماءاتهم السياسية، واختلاف أديانهم ومذاهبهم. وكان من أجمل ما في ميدان التحرير بالقاهرة هو رفض أقباط مصر الإذعان لأوامر سلطتهم الدينية بإعطاء الولاء لمبارك، والعودة إلى بيوتهم. وحينها خرج الأقباط من كنائسهم، وانخرطوا مع مواطنيهم في الصلاة في ميدان التحرير، ليكونوا جزءاً من هذا النسيج القومي. كما خرج أساتذة وشيوخ وطلبة الأزهر وانضموا إلى الشعب الثائر، ولم يرفعوا أي شعارات تطالب بتطبيق قوانين خاصة، وإنما هتفوا جميعا للوحدة الوطنية.
هذا الخليط من شعب مصر، رجالا ونساء ورجال دين من الأزهر الشريف، يدل على أن ثورة جديدة ولدت في العالم العربي، هي ثورة الإسلام المعتدل البعيد عن شعارات اعتدنا سماعها طوال السنوات الماضية. وهؤلاء الشباب والشابات قادرون على أن يحكموا مصر العربية، إسلامية الثقافة، بالعدالة بين جميع سكان مصر من مسلمين وأقباط، وعلى أن يستعيدوا للناس حرياتهم التي سلبت منهم، وكرامتهم التي أهدرت، وأموالهم التي سلبت، وشخصيتهم التي سحقت، محافظين على الهوية الحضارية والدينية التي تناسب كل عصر وزمان.
هذا الإسلام المعتدل هو الذي سيجعلنا نركز ثانية على صناعة نهضة عربية إسلامية مثقفة مخلصة لأوطانها، وحضارة نفخر بها وينتمي إليها الجميع. وسيظهر للعالم أن الإسلام ليس دين إرهاب، ولا هو يكفر الأديان السماوية الأخرى. وبذلك، يكون في جوهره معتدلاً ينصف الجميع في مصادره الأساسية، ويرفض التأويلات والاجتهادات والفتاوى التي تبتعد به عن هذا الجوهر، والتي أصبحت سلعة يتاجر بها بعض رجال الدين كما فعل بابوات روما في العصور الوسطى، حين بدؤوا ببيع أماكن في الجنة مقابل مبالغ باهظة يدفعها الكاثوليكي، والتي تسمى صكوك الغفران، وهذا ما جعل الكنيسة البروتستانتية تنفصل عن الكاثوليكية.
إن الإسلام المعتدل الذي ينبع من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة قادر أن يجمع المسلمين على إسلام واحد بعيد عن الانشقاقات المذهبية والتعصب الأعمى، وهو يجمع ولا يفرق لأنه مبني على مصادره الواضحة والمتكاملة: القرآن الكريم، سنة الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شيء آخر.
د. عبدالله عقروق
الغد:5/3/2011
ابحث
أضف تعليقاً