إن زيارة قداسة الباب بندكتس السادس عشر إلى الأراضي المقدسة في الأردن تعزز صورة الإسلام الوسطى والمعتدل وتظهر حقيقته القائمة على مبدأ الحوار الحضاري بين الأديان.
فقد أكد جلالة الملك عبد الله الثاني أهمية الالتزام بقيم الاحترام المتبادل والتأسيس لحوار عالمي جديد قوامه التفاهم والنوايا الطيبة.
وعبر جلالته في كلمة ألقاها في حفل الاستقبال الرسمي لقداسة الباب بندكتس السادس عشر الذي جرى في مطار الملكة علياء الدولي عن الأمل بأن "نستطيع معاً توسيع الحوار الذي بدأناه ، حواراً يقبل بخصوصية هوياتنا الدينية ، ولا يخاف من نور الحقيقة ، حواراً يعظم قيمنا وروابطنا المشتركة".
وأعرب جلالته عن اعتزازه بأن يكون الأردن موطن رسالة عمان ، التي تبين للإنسانية جمعاء دعوة الإسلام إلى التعاطف والرحمة والتسامح ، بالإضافة إلى تأكيدها الدور الحيوي والإيجابي للأديان في صون الكرامة الإنسانية.
إن زيارة البابا تؤكد أهمية دور الأردن في المنظومة الإسلامية التي احترمت صور التعايش والتفاعل بين الأديان والحضارات ، وأن الإسلام عزز منذ انطلاق الدعوة احترام الأديان الأخرى.
وكما كان سيدنا عمر قدوة المسلمين في العهدة العمرية التي حددت الأماكن المقدسة واحترمت المواثيق والعهود بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الرسالات السماوية فإن راعي الكنيسة صفرونيوس في عهد سيدنا عمر بن الخطاب هو قدوة المسيحيين حين رفض تسليم مفاتيح القدس إلا لسيدنا عمر لقناعته بأنه هو القادر على حمايتها في صورة تاريخية عكست الحماية المشتركة للمقدسات.
ولنهر الأردن خصوصية دينية وتاريخية فهو النهر الذي دفن على ضفتيه العديد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أبان الفتوحات الإسلامية ، وهو ذاته تعمد فيه السيد المسيح فكان أرض التواصل للرسالات السماوية عبر التاريخ.
ورسالة عمان هي رسالة الإسلام التي عبرت ببساطة عن وسطية الإسلام واعتداله ، ورفضها المطلق لربط الإسلام بممارسات فئة قليلة شوّهت الإسلام ، واستغلت وسطيته لتسير به نحو الغلو ، والتطرف ، ورفض الآخر.
ولدت رسالة عمان في ليلة مباركة ، إذ كان جلالة الملك عبد الله الثاني قد أحيا في التاسع من تشرين الثاني 2004 ليلة القدر المباركة في مسجد الهاشميين ، واستمع جلالة الملك إلى رسالة عمان التي ألقاها مستشار جلالته للشؤون الإسلامية قاضي القضاة رئيس مجلس الإفتاء سماحة الشيخ عز الدين الخطيب التميمي ، والتي تأتي قبل إعلان الأردن عزمه عقد مؤتمر إسلامي في عمان عام ,2005
وأكدت الرسالة أن المملكة الأردنية الهاشمية قد تبنت نهجاً يحرص على إبراز الصورة الحقيقية للإسلام ، ووقف التجني عليه ، بحكم المسؤولية الروحية ، والتاريخية الموروثة التي تحملها قيادتها الهاشمية بشرعية موصولة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم.
وشددت الرسالة على أن الإسلام العظيم الذي نتشرف بالانتساب إليه يدعونا إلى الانخراط والمشاركة في المجتمع الإنساني المعاصر ، والإسهام في رقيه ، وتقدمه متعاونين مع كل قوى الخير والتعقل ، ومحبي العدل عند الشعوب كافة ، إبرازاً أميناً لحقيقتنا ، وتعبيراً صادقاً عن سلامة إيماننا وعقائدنا المبنية على دعوة الحق سبحانه وتعالى للتآلف والتقوى.
ونبهت رسالة عمان إلى دور العلماء وإسهاماتهم في تفعيل مسيرتنا ، وتحقيق أولوياتنا بأن يكونوا القدوة في الدين ، والخلق ، والسلوك ، والخطاب الراشد المستنير ، يقدمون للأمة دينها السمح الميسر ، وقانونه العملي الذي فيه نهضتها وسعادتها ، ويبثون بين أفراد الأمة ، وفي أرجاء العالم الخير ، والسلامة ، والمحبة.
لقد عبرت رسالة عمان عن روح عمان ، عاصمة الهاشميين ، عمان الاعتدال والوسطية والتسامح ، ورسمت صورة واقعية لما عليه صورة الإسلام السمحة ، التي تتعرض اليوم لهجمة شرسة ممن يحاولون أن يصوروها عدواً لهم بالتشويه ، والافتراء ، ومن بعض الذين يدّعون الانتساب للإسلام ، ويقومون بأفعال غير مسؤولة باسمه ، ولهذا أكدت الرسالة أن المملكة الأردنية الهاشمية قد تبنت نهجاً يحرص على إبراز الصورة الحقيقية المشرقة للإسلام.
إن الإسلام كما أكدت الرسالة ، دين أخلاقي الغايات والوسائل ، يسعى لخير الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، ولا يكون الدفاع عنه إلا بوسائل أخلاقية ، فالغاية لا تبرر الوسيلة في هذا الدين ، والأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هي السلم ، فلا قتال حيث لا عدوان ، وإنما المودة والعدل والإحسان.
وتأسيساً على كل هذا ، فإن الأمل معقود على علماء أمتنا بأن ينيروا بحقيقة الإسلام وقيمه العظيمة عقول أجيالنا الشابة ، فيجنبوهم مخاطر الانزلاق في مسالك الجهل والفساد والانغلاق ، والتبعية ، وينيروا دروبهم بالسماحة والاعتدال والوسطية والخير ، وينأوا بهم عن مهاوي التطرف والتشنج المدمرة للروح والجسد.
تعبّر رسالة عمان عن موقف إيماني عميق ، يضع معالم ضرورية لمسيرة أمة ، تصطرع في بحر لجي من الأزمات والابتلاءات ، تضطرب فيها البوصلة ، وتختلط الأولويات ، وهي تحتاج لنظر عميق وتأمل ، كي تكون نبراساً يضيء ظُلمة الطريق ، ويأخذ بيد الحيارى والتائهين إلى بر السلامة والأمان.
لقد جاء بيان عمان الذي اختيرت ليلة القدر لإشهاره في وقت أحوج ما تكون أمتنا لمن يصارحها بما نهضت إليه عبر تاريخها من إنجازات ، وما تضمنته حضارتها من منجزات ، وما حل بها منذ تعودها عن الفعل والحركة من محن وابتلاءات ، فهي مدعوة اليوم لفك الحصار عن عقلها ، والخروج من العزلة التي اختارتها ، والعودة إلى مقاصد شريعتها التي انتدبت من بين الأمم للنهوض بها ، وتبليغها.
أرادت عمان أن تحمل على عاتقها أمانة الدفاع عن قيم الدين الحنيف ومبادئه ، وأخلاق الأمة التي تدين به ، وسعت لتوحد رؤية العالم الإسلامي ، وجمعه على خطاب واضح المعالم محدد الأطر ، لا يسمح بترك المفاهيم العامة لتتحول إلى مساحات رمادية يلعب فيها ، ويعبث بها منتسبون ضعفاء العقل والضمير ، أو مغامرون عابثون بمصير الأمة لا يقيمون وزناً لشرعة الله ، وسنة النبي ، يلتقون في نهاية المطاف بالقوى التي دأبت منذ عقود على محاولة عزل الأمة الإسلامية عن المجتمع البشري ، والحضارة الإنسانية المعاصرة ، ليس حماية لها وإنما إمعاناً في ترسيخ صفاتها المادية ، وميولها الطبقية ، ومداخلها المظلمة الظالمة.
كانت الرسالة وليدة فكرة تجمعت أركانها عبر سنوات طويلة تبَنّى الأردن خلالها الكثير من المؤتمرات والندوات ، وكذلك المبادرات الهادفة إلى صياغة موقف إسلامي عقلاني بحثي فقهي سياسي يعرض على الأمم والشعوب كلها ، موقف يعبر عن عقيدة يزيد أتباعها على خمس سكان المعمورة ، وتعتبر إسهاماتها في بناء الحضارة الإنسانية رصيداً لا يمكن إنكاره ، وقاعدة قامت عليها صروح من العلم ، والمعرفة ، والفلسفة ، والسلوك الاجتماعي ، وما تزال تشكل في اعتدالها ، وتسامحها ، ورقيها ثقلاً حفظ الحياة الإنسانية من صدامات وانحرافات خطيرة.
وصدرت الرسالة عن جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين القائد الهاشمي الذي خاض بنفسه تجربة التحدّث إلى المجتمعات الغربية ، وبلغتها الواضحة ، ولمس مثلما لمسنا معه الأثر الطيب الذي تركه خطابه الذي يعتبر نموذجاً في المعاصرة ، والصدق ، والصراحة لدى تلك الأوساط الغربية ، وهي كما نعرف جميعاً أوساط فكرية ، وثقافية ، وإعلامية ، وسياسية رفيعة المستوى.
وأظهرت الأوساط الغربية انبهارها بالأفكار التي عبّر عنها جلالته ، وهو يصحح الصورة ، ويحذر من الوقوع في التزييف والتشويه ، الذي يستهدف تدمير جسور العلاقة بين الشعوب وإفساد بالعلاقات الدولية لما تبثه من ريبة ، وضغينة ، وشكوك لا يستفيد منها سوى أعداء السلام ، والأمن ، والازدهار ، وغيرهم ممن يجنحون نحو التطرّف ، والتعصب ، والإرهاب.
وإن زيارة الباب تعكس أهمية الأرض الأردنية بالنسبة للعالم وأنها على مدار التاريخ الإسلامي وفي جميع الظروف كانت تفتح أبوابها لإخوانها المسيحيين من مختلف الطوائف وهم الذين يعيشون بين ظهرانينا ويمثلون انموذجاً للتعايش نظيره في العالم.
الدكتور محمد محمود العناقرة/ الدستور
Date : 26-02-2011
ابحث
أضف تعليقاً