wasateah
المنتدى العالمي للوسطية
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً
عدد الزوار page counter
"محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم"
السبت, January 2, 2016

هي الآية الأخيرة من سورة الفتح. سماها الله الفتح قبل أن يكون الفتح الحقيقي لمكة، وجمهور المفسرين على أن الفتح هنا هو صلح الحديبية 6هـ. إذ بالصلح تفرغ المسلمون للدعوة، وانتشر الإسلام في الجزيرة. ولغة الأرقام مهمة في هذا الشأن، فقد كان عدد المسلمين في الصلح لا يتجاوز الألفين، بينما بعد عامين كان قوام جيش فتح مكة عشرة آلاف.
ويهمني هنا هذا الوصف للنبي الكريم وصحبه؛ حيث الشدة على الكافرين والرحمة على المؤمنين. وصحيح أنه رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم، ومن الرحمة أن يكون شديدا على الكافرين فلا يؤذون غيرهم. وهذا هو مفهوم العقوبات في الإسلام بشكل عام، فلا بد من القسوة والشدة أحيانا، لينعم الجميع بعد ذلك بالأمن والأمان.
كنت أحيانا أتعجب من قوة النص القرآني في شدته على الكافرين، كمثل أن لا يكون للنبي أسرى حتى يثخن في الأرض، أي يُكثر من قتل الكافرين. ولكن بالتمعن والتدقيق، فإن هذا قد يكون مانعا من استمرار القتال واستنزاف الجهد وزعزعة الأمن، ولذلك فهي الشدة التي تأتي بالأمن والرخاء والانطلاق في مسعى مهم من مهمات الإنسان على هذه الأرض، حيث عمارتها وحمل الأمانة.
ابتدأ النص بالحديث عن الشدة على الكافرين، لأن السياق سياق جهاد وحديث عن مشركين وما يمكرونه ضد المؤمنين، ولأنهم منعوا المسلمين من أداء العمرة، وهذا حق الأصل أن تكفله قريش لا أن تمنعه. والمشركون يومئذ لا يريدون أن يروا المسلمين يدخلون مكة حتى لو كانوا معتمرين، فلا بد أن تُظهر قريش كبرياءها، فكان هذا الصد. وساق الله لهم هذا الصلح الذي عدّه الله فتحا؛ فالدعوة منطلقة لا تأبه بأي معيق، وإن كان هناك ما يعيق في جهة أذهبُ إلى أخرى، وإن أغلقوا عليّ الأبواب فلا شك هم يحكمون عل أنفسهم بالهلاك، لأن هذا الدين كالنهر، إن أعاقوه هنا ذهب إلى هناك، وإن حجزوا الماء فلا شك هو الطوفان، والمهم أن يكون هناك من يعمل لهذا الدين ولا ييأس، ولا يصادم سنن الله ولا يستعجل الثمر، ولا يناقض مبادئ الإسلام نفسه، ومنها هذا؛ بأن يكون شديدا على الكافرين المحاربين، رحيما بالمؤمنين وبكل من يسالمه.
وبعد الحديث عن الشدة على الكافرين، يأتي الحديث عن الرحمة التي ينبغي أن تسود بين المؤمنين أنفسهم. فالعلاقة بين المؤمنين رحمة، وهذه الرحمة هي التي تقودهم في المجموع إلى أن يكونوا رحماء على الناس جميعا من غير الحربيين، لأن الرسالة الإسلامية في جوهرها رحمة للعالمين، كما وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الأنبياء، الآية 107). وهذه أمور ينبغي التأكيد عليها. فالرحمة بيننا كأمة مسلمة ينبغي أن تكون واقعا معيشا لا مجرد شعارات، وما قد يكون بين المسلمين من خلافات وخصومات لا تصل إلى درجة الشدة على أنفسنا، بل هي على الكافرين. ومن جانب آخر، لا بد أن نتدرّج في شعور الرحمة على الناس جميعا، حين نتذكر أننا دعاة لنخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأن غير المسلمين ليسوا في درجة واحدة، فهناك من يعاديني وهناك من هو مسالم.
والعجيب أن الله تعالى قال هنا في سورة الفتح "... أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ..." (الآية 29) لما بيّنا، بينما قال في سورة المائدة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ..." (الآية 54)؛ فقدم الذلة على المؤمنين لأن السياق يتحدث عن ردة وقلة التزام وتضييع لكثير من مقومات الأمة المسلمة، وكأن عنصر الحب بين المؤمنين مفقود أو ناقص، وأن الذلة على أنفسهم فيها خلل، فابتدأت الآية بالذلة على المؤمنين. وهذه حقيقة نعيشها اليوم؛ فما كان بأس المسلمين بينهم شديدا مثلما هو في هذه الأيام، قتلا وتكفيرا ونيلا من الأعراض واعتداء على الأموال، وتسفيها للرأي وقلة احترام للرأي الآخر، ولو صدر عن علماء مشهود لهم بالصلاح.
هناك من يغذي وسائل الفرقة، ونحن أوْلى بوسائل التجميع والاحترام. فمقومات جمع الأمة أكثر بكثير من أسباب تفرقتها، وحري بالمسلمين أن يترفعوا عن كل ما يفرقهم، وحري بالعلماء والدعاة وملتزمي الجماعات أن ينتقلوا إلى مرحلة من احترام بعضهم والآراء الأخرى ولو كانت من غير المسلمين، وأن يترفعوا عن المسائل التي لا تزيدنا إلا كرها لبعضنا ولآخرين من غير المسلمين. ونحن مدعوون للإحسان إليهم ودعوتهم، فما يزال المسلمون في خلافات متعلقة بالعبادات والجهر بالبسملة وكيفية السجود... وخلافات متعلقة ببعض المعاملات، وخلافات جديدة متعلقة بالنسخ وبعض الأحكام، وقاعدة هذا كله أنه إن احتمله النص ووارد في لغة العرب وعليه دليل صحيح، فلا بأس من التوسع والاختلاف فيه، اختلاف التنوّع الذي أراده الله نفسه، فالذي شاء لعباده أن يقرأوا القرآن على سبعة أحرف وبينها أحيانا اختلاف معان، لا شك يريد من النص أن يكون مرنا يقبل الاختلاف في الفهم، وبالتالي الاختلاف في العمل، وكل ذلك مراد لا يمكن منعه.
كم نحتاج إلى هذه المرونة في الفهم والاحترام والتأكيد على الثوابت، فالتعصب لا يأتي بخير أبدا، وربما يقضي أول ما يقضي على صاحبه. والمسلمون مطالبون أكثر من غيرهم بتوسيع آفاقهم وتذكر أن رسالتهم عالمية. وفي الإسلام من التنوع في الفتوى وبحبوحة الاجتهاد الصحيح، ما يغنيان عن كثير من هذا التوتر والتعصب. ولنتذكر أن الأمة في تاريخها ما تقهقرت وانهزمت إلا حين تعصبت والتهت عن العمل والدعوة والجهاد، واكتفت بالتنظير والتعصب لأفكار جزئية.

أضف تعليقاً

تتم مراجعة كافة التعليقات ، وتنشر في حال الموافقة عليها فقط ، ويحتفظ موقع المنتدى العالمي للوسطية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ولأي سبب كان ، ولن ينشر أي تعليق يتضمن إساءة أو خروجاً عن الموضوع المطروح ، وأن يتضمن اسماء أية شخصيات أو يتناول إثارة للنعرات الطائفية والمذهبية أو العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث أنها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع المنتدى العالمي للوسطية علماً ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط.

Filtered HTML

  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Allowed HTML tags: <a> <em> <strong> <cite> <blockquote> <code> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd>
  • Lines and paragraphs break automatically.

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.