من خلال تحليل الخطاب الإسلامي بشقيه الإعلامي، والفردي، نلاحظ غياب أربعة أمور خطيرة جدا، من شأنها إعاقة تطور المجتمع، وتعطيله عن التطور والتقدم للأمام.
أول أمر هو غياب التدرج؛ فالعقل الإسلامي الحديث بشكل عام يرفض هذه الفكرة، رغم أنها راسخة في التاريخ الإسلامي، ونظريا الجميع متفق عليها، بل ويعرفون جيدا قصة تحريم الخمر، ولكن في الواقع الأمر يختلف، فكأننا نتعامل مع التاريخ الإسلامي بطريقة وكأنه حالة محنطة، لا يقاس عليها أبدا، بل ان أي شيخ، أو مفكر يطالب بالتدرج في بعض القضايا يجابه بالرفض، والتشكيك، وأراهن على أن التجربة الإسلامية التركية لو كانت في المنطقة العربية لرفضت بالكامل، بل ان العقل العربي الإسلامي يشفع لها (التنازلات) التي تقدمها، و(إعادة ترتيب الأولويات) التي قامت بها وفق القواعد الديمقراطية، بناء على الإنجازات التي حققها اردوغان في مجال تحدي الكيان الصهيوني، فالحب العربي الإسلامي لهذه النقطة يجعل الجميع يتغاضى عن النقاط الأخرى، فالعقل الإسلامي يرفض أن نطلق على الربا كلمة فائدة على سبيل المثال، حتى لو كان الأمر يتعلق بالتلفظ في مجال لا تستطيع ان تتلفظ بغيره، واذكر انني شاهدت مقابلة في قناة عربية مع اردوغان، وكان يقول عن سعر الفائدة المرتفع وكيف تعاملت معه حكومته، فقلت لنفسي لو كان ارودغان عربيا، وتلفظ بكلمة فائدة، ولم يقل ربا، لكان قد سقط في عيون كثير من الناس، وراحوا يهاجمونه، لأن العقل العربي الإسلامي يتعامل مع الاسم، وينسى المسمى، وينظر إلى القشور، ولا يجد وقتا للتعامل مع المضمون، وهذا لا يعني قبولنا بهذا الأمر، فهناك فرق بين ان تتعامل كحكومة أو حزب مع واقع، وبين ان اقبله أو ارفضه.
والأمر الثاني عدم تطبيق القاعدة الشرعية (ما لا يدرك كله لا يترك جله). كثير من المتدينين يرفض أي أسلوب لتطبيق الإسلام، لأنهم يعتقدون -من دون أن يدركوا ذلك- انه حلم هلامي لا يمكن تطبيقه في الواقع، وهذا واحد من أسباب انتشار التطرف، إذ إن الإنسان المتطرف يرفض الواقع، وفي الوقت نفسه لا يمكن ان يمتلك أي بديل، وهو يرفض نفسيا أي بديل حتى قبل ان يسمعه، أو يجربه، فهو يؤمن بالقاعدة: الذي أريده هو الذي لم يأت بعد. وفعليا يمكن إكمال القاعدة بالقول: ولن يأتي أبدا. حسب طريقة التفكير العقيمة تلك.
عدم الثقة بالآخر منتشرة في العقل الإسلامي، وإذا كان البعض يؤمن بضرورة العمل مع الآخرين فهذه خطوة على الطريق من أجل التخلي عن هذا التحالف، مع الوصول إلى الأهداف، مع ان عملية الاحتكاك باصحاب التجارب الأخرى، وان كانت متناقضة تماما تؤدي إلى عملية تفاعل رائعة، تؤدي إلى تطوير الفكر الإسلامي، والأفكار الأخرى، بطريقة تجعل هناك تعايشا جميلا، بفكر مختلف، يأخذ من الجميع أحسن ما عندهم، بل ان من نشاهده من تطور في كثير من مناحي الحياة الإسلامية الآن هو ناتج عن احتكاك بالغرب صاحب الحضارة المختلفة عنا، وفي الداخل أدى التفاعل مع أصحاب الأفكار الأخرى إلى ان يأخذ الإسلاميون منهم أشياء كثيرة إيجابية.
العلمانية، والشيوعية، واليسارية، واللييرالية، وغيرها كلها أفكار تمتلك تجارب غنية، يمكن الأخذ منها، ومن الخطأ رفضها جملة وتفصيلا، مع الإشارة إلى ان بعض أصحاب الأفكار الأخرى في بلادنا – هم في العادة – لا يطبقون الديمقراطية التي يؤمنون بها على المتدينين، ولا يعتقدون داخليا بحق المتدين في ممارسة حريته، وفي الخلاصة التطرف موجود عند الجميع، وهذه طبيعة البشر.
رابع هذه المفقودات هو عدم وضع أولويات في الخطاب الإسلامي، فهناك هوس شديد لمحاربة الخمر، والملاهي الليلية مثلا، وهذا مشروع، وجيد، ولكن.. أليس من الأفضل البدء بالحرية والديمقراطية، وهي كفيلة عن طريق صناديق الاقتراع ان توصلنا إلى بلد أنظف أخلاقيا، وأكثر التزاما بالمبادئ العامة للمجتمع، فكيف لي ان افرح بعدم وجود الخمر في بلادنا، مع القمع، أو عدم سيادة المفاهيم الديمقراطية على سبيل المثال.
من المعروف انك تستطيع حينما تقدر على إقناع الناس بفكرتك ان تعالج الأمر تشريعيا، وبطريقة تجعل الأمر مقبول شعبيا، وهكذا تنجح في إيصال ما تريد بطريقة عميقة، تبقى راسخة، ولا تسقط مع أول رياح تغيير.
هذه بعض من المفقودات في الخطاب الإسلامي، وهناك مفقودات أخرى، ونحن نحتاج دائما للتذكير بها، حتى نصحح المسار، ونصل إلى بناء إنسان متكامل، قادر على معرفة طريقه، والتفاعل مع الحضارة بشكل إيجابي، يجعله يتقدم للأمام، في زمن أصبح المشي للوراء هو الأصل.
الغد:20/5/2011
محمود أبو فروة الرجبي
* كاتب أردني
ابحث
أضف تعليقاً