هناك آيات عدة في القرآن الكريم تربط بين الاستقامة ورغد العيش، منها هذه التي وردت في سورة الجن، ومثلها في سورة الأعراف: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ"، وقوله تعالى في سورة المائدة: "وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ". وهي في مجملها وعد من الله تعالى أن يغدق ويبارك العطاء لمن التزم شرعه وطبّق أحكامه وصدق ربه.
ولا يعني هذا أنه لا يوجد ابتلاء بشكل عام؛ فلله سبحانه حِكم كثيرة من تصريف الأمور، وهو أدرى بعباده وما يصلح لهم من المنع أو العطاء، ومن تصحيح الأمور وتوجيه القلوب وارتقاء النفوس. ولذلك جرى للمسلمين زمن عمر بن الخطاب مجاعة، فيما سمّي "عام الرمادة"؛ وجرى ذلك في أكثر من زمن. فلله الأمر من قبل ومن بعد في أن يبتلي لحكمة، وأن يعطي لحكمة، وهكذا. ولكن يبقى الشأن العام في أن الرخاء الاقتصادي مبني على التزام شرع الله. وما تشهده كثير من الدول المتقدمة من رخاء أربطه بما عندهم من قسط وافر من العدل، فالله يؤيد الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا يؤيد الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، وحينها هي ليست مسلمة فعلا، بل اسما.
المشكلة الاقتصادية تحف دولا ومجتمعات كثيرة، منها المسلمة، وهناك وعد من الله أن يعطي بناء على التزام شرعه، وهو وعد لا يتخلف، ولن يتخلف، ما دمنا قد أخذنا بأسباب الرزق؛ فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، والأخذ بالأسباب عبادة، يستشعر من خلالها العبد حاجته لله تعالى، وفقره له، وهو الغني الحميد، مالك الملك سبحانه.
ورد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن إقامة حد من حدود الله في الأرض خير من أن يُمطَر الناس ثلاثين صباحا، فهو إقامة شرع الله من جهة، وهي البركة التي ستحل من جهة أخرى. وهذا نموذج ليس إلا، فليس شرع الله مرتبطا بالحدود كما يظن بعض الناس، بل الشرع في مجموعه، عقائد وأحكام وأخلاق، حين نستشعر أننا نتفيأ في ظل رسالته التي أنزلها على رسوله، ونستشعر التزامنا بأمره تعالى حين يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ..."، وحين يقول أيضا: "وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ".
وعندما أنزل الله تعالى نهيه أن لا يقرب المشركون المسجد الحرام فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا..."، حينها قد يقول أحدهم إننا نستفيد من ذلك في تجارتنا معهم، وهكذا هو عالم السياحة اليوم، فقال الله تعالى في الآية نفسها ردا على أي ظن قد يبدو منهم، وهو منهج أصيل أبدي: "... وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"، فلا يتعذرّن أحد بالحاجة والضرورة في مثل هذه الأمور، فالله تعالى هو وحده المتصرّف، يرزق من يشاء، ويبارك لمن يشاء، ويمنع من يشاء، كل ذلك بعلمه ووفق حكمته.
هذا كله خطاب للأفراد والحكومات؛ فالله تعالى يعطي رزقه للجميع، مؤمنهم وكافرهم، فما من دابة إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، فكيف بالإنسان المكرّم. وفي دعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام: "... وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ..."، فقال الله أيضا: "... قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"؛ فله في الدنيا الرزق، لكن مصيره في الآخرة العذاب على ما كان منه من جحود. فالله يعطي الدنيا لمن يحب ولا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا لمن يحب.
إن الحكومات مطالبة على الأقل بتطبيق العدل الذي هو أساس الحكم، والذي به تكون كرامة الإنسان وحريته والمساواة، فلا فضل لأحد على آخر أمام القانون. وهذا بحد ذاته أمر عظيم، فلا محاباة ولا جور ولا فساد، بل هناك محاسبة للظالم والمعتدي، والجميع سواسية أمام القانون، بمن فيهم الحاكم. فمشكلة الناس حين يكونون في أوضاع اقتصادية سيئة هي وجود الفساد، ووجود الفساد ناتج عن خلل في تطبيق القوانين، وهذا ناتج عن غياب الضمير واحتقار الناس وخلل في العدالة، حينها يتحول المجتمع إلى مجتمع كراهية وأحقاد، ويستأثر أصحاب المصالح بما حصلوا عليه من المكاسب، ويشيعوا أفكار الفساد بطريقة لبقة مغلفة بالوطنية والأمن والاستقرار، وهم يعلمون أن المجتمع منخور آيل للسقوط، لأنهم لا يفكرون إلا بمصالحهم، وهو العيش الأناني، والفكر الأناني، فلا قيمة للناس جميعا أمام مصالحهم ومكاسبهم.
وألو استقاموا على الطريقة، وهي شرع الله، لأسقيناهم ماء غدقا، ومع الماء تكون الحياة ورغد العيش وسد حاجات الناس. ومرة أخرى هو وعد من الله تعالى، شرط وجوابه، مدخلات ومخرجات؛ استقيموا ترزقوا، بل تكون لكم القوة والهيبة والمنعة، كما كنا في تاريخنا، سادة الدنيا بحق وعدل وكرامة، لا بانتهاك كرامة الإنسان والنفاق العالمي الذي تمارسه الدول الكبرى، وهي غالبا ممارسات لاأخلاقية، حين تعيش على الحروب، فليُقتل الناس مقابل أن تبقى مصانع السلاح مستمرة، ولتزل أمم مقابل أن تنعم شعوب أخرى بالرفاهية، هذا هو الموجود المطبَّق في كثير من أماكن الصراع.
الماء الغدق، وفتح بركات من السماء والأرض، والأكل من فوقنا ومن تحت أرجلنا، كلها أمور وعد الله بها مقابل تعظيمه والاستقامة على منهجه، فماذا نحن فاعلون؟!
ابحث
أضف تعليقاً