أولا: التسامح
تنطوي المجتمعات الإنسانية على درجةً كبيرة من التباين والتوحد، حيث يتجلى هذا التباين في العدد الكبير من الأعراق والأجناس والأديان والقوميات التي تحمل قيماً ومعتقدات تؤدي إلى ثقافات مختلفة. ويتجلى التوحد في أن كل أعضاء المجتمع الإنساني يشتركون في كونهم يسعون للعيش بكرامة وسلام وتحقيق طموحاتهم ومصالحهم، وعلى ذلك فإن ما يجمع الناس هو أكثر مما يفرقهم. وفي العصر الحالي فإن الاحتكاك وتواصل المجتمعات مع بعضها البعض، وتشابك المصالح بينها نتيجة لثورة الاتصالات والمعلومات والمواصلات جعل من التسامح والتعايش والاتصال والحوار المفتوح ضرورات لا بد منها لتحقيق مصالح المجتمعات جميعها.
ويعني التسامح مجموعة السلوكيات والممارسات الفردية والجماعية التي تهدف إلى نبذ التطرف والتعصب، وتقويم كل من يعتقد أو يتصرف بطريقة مخالفة للقيم السائدة، وإعادته إلى الطريق الصحيح، بما يتوافق وقيم المجتمع الذي يعيش فيه. كما يعني التسامح السلوك والنهج المتبع لمواجهة التصرفات والممارسات الفردية والجماعية غير المبررة في أي مجال كان مما تؤدي إلى الحد من التصرفات العنيفة (علي الطالقاني، مرجع سابق) هذا إضافة إلى أن التسامح يؤدي إلى قبول الرأي والرأي الآخر، ودونما تعصب، والنقاش الحضاري الهادف القائم على الحجة والإقناع.» أُدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن « (النحل : 125)
ويمكن أن يتخذ التسامح كنمط اجتماعي متصل سواء في علاقة الإفراد فيما بينهم من جهة، أو في علاقتهم مع السلطة، أشكالاً متعددة منها التسامح في العلاقات الإنسانية والتسامح الديني قال الله تعالى: إن الذين امنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من أمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. سورة المائدة آية (69)والثقافي، والتسامح العرقي قال رسول الكريم في خطبة حجة الوداع: إن أباكم واحدٌ, كلكم لآدم وآدم من تراب, إن أكرمكم عند الله أتقاكم, ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى. وعندما يسود التسامح والتعايش السلمي بين أفراد المجتمع، فانه يؤدي بالنتيجة إلى ترسيخ ثقافة الاحترام المتبادل بين الأديان والطوائف والمذاهب، والتعايش والحوار العقلاني البعيد عن التعصب والكراهية، كما يؤدي إلى ترسيخ احترام حقوق الإنسان وحرياته العامة والانفتاح بين الثقافات والحضارات، وبالنتيجة تحقيق التوافق الاجتماعي وتحقيق المكاسب المشتركة للمجتمع. ذلك أن سيادة ثقافة التسامح والابتعاد عن التعصب ومصادرة الرأي الآخر، يفسح المجال أمام أفراد المجتمع للتوجه نحو تحقيق غاياتهم المشتركة، والتوجه نحو بناء الوطن، من جهة والاستفادة من مقدراتهم الفردية ومن مقدرات الوطن من جهة أخرى، لما يخدم الصالح العام.
ثانياً: نبذ العنف والتعصب
يعتبر التعصب - بإشكاله المختلفة- ظاهرة قديمة حديثة يرتبط بها العديد من المفاهيم كالتمييز العنصري و الديني والطائفي والجنسي. والتعصب هو بمثابة شعور داخلي يدفع الإنسان إلى أن يرى نفسه على حق، ويرى الآخرين على باطل، ويظهر هذا الشعور بصورة ممارسات ومواقف متزمتة ينطوي عليها مصادرة الآخر واحتقاره وعدم الاعتراف بحقوقه وإنسانيته لقد نصت المادتان (1،2) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على : أن جميع الناس يولدون أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء. لجميع الناس التمتع بهذه الحقوق بلا تمييز بسبب العنصر أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر ودون تفريق بين الرجال والنساء».
ولتعصب أشكال مختلفة قد يرتبط بعضها ببعض ومنها، التعصب الديني تقول رسالة عمان بخصوص الدين الإسلامي الحنيف وابتعاده عن التعصب ان « هذا الدين ما كان يوماً إلا حرباً على نزعات الغلوّ والتطّرف والتشدّد، ذلك أنها حجب العقل عن تقدير سوء العواقب والاندفاع الأعمى خارج الضوابط البشرية ديناً وفكراً وخلقاً، وهي ليست من طباع المسلم الحقيقي المتسامح المنشرح الصدر، والإسلام يرفضها - مثلما ترفضها الديانات السماوية السمحة جميعها - باعتبارها حالات ناشزة وضروباً من البغي».
ويتصف الإفراد الذين يتصفون بالتعصب بسمات منها:- التسلط والجمود في التفكير، اللجوء إلى العنف لتحقيق الغايات، التمركز حول الذات وعدم تقبل الحوار مع الآخرين.
ويمكن تحديد الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى التعصب بعاملين أساسيين أولهما مرتبط بالفرد وآخر مرتبط بمحيطه.
أولا: عوامل مرتبطة بالفرد وتكوينه النفسي.
1- محاولة الفرد إشباع بعض حاجاته: مثال ذلك الحاجة إلى الشعور بان الفرد يحتل مركزا مرموقا بين الآخرين أو الشعور انه أفضل من الآخرين فقد تدفع مثل هذه الحاجة الفرد إلى تقوية هذا الاتجاه العنصري حيث يتيح له الفرصة لاحتقار البعض والتعالي عليهم لإشباع حاجاته، إلى الشعور بأنه أفضل منهم.
2-حاجات اقتصادية: تندرج هذه الحاجة تحت التعصب لسلبياتها، فالفرد الذي يعيش تحت ظروف الفقر يجبر بعضهم إلى سؤال الغني الذي قد يحتقره بشكل علني، مما يتيح البعض من الفقراء إلى اعتقاد ان له حقا لدى الغني، مما يفتح المجال لنفسه بالانخراط في النهب والتعدي على الآخرين بدعوى التحرر من الفقر وإشباع رغباته.
3-التعبير عن العدوان : فالتعصب وما يعبر عنه من سلوك عدائي يعطي الفرصة لمن يعاني من إحباطات مختلفة بالتعبير عن عدوانه، في مجال قد يتسامح فيه المجتمع بل قد يعمل الآخرون على تنميته هذا الشعور لديه، ويقال في مثل هذه الحالة إن الفرد لجأ بصورة لا شعورية إلى الإحلال أو الإبدال، وهي حيلة آلية دفاعية لا شعورية، يلجأ إليها الفرد حينما يتعذر عليه لسبب أو لأخر، التعبير عن انفعال في مجال جماعته التي اختارها أو ارتبط بها، مثال على ذلك فقد يجد الفرد نفسه غير مقبول اجتماعيا لسبب اضطهاد سياسي, فهو يعبر عن شعوره بالاضطهاد والظلم بكتابة العديد من المقالات المناهضة للأخر والتي تحمل طابع التعصب والعدوانية، فهنا يتسامح المجتمع معه، ويعطيه الدافع للكتابة حول ما يواجه من عنصرية وتعصب من جماعته، يساعده على التنفيس عن ما يدور في خلده من أفكار.
4-الإسقاط: فقد يلجأ الفرد تخلصا من القلق ومشاعر الإثم المرتبطة بنقائص يدركها في شخصيته وسلوكه إلى إسقاط هذه النقائص على الآخرين.
ثانياً: عوامل محيطة بالفرد
1- الأسرة: قد تقوم الأسرة بدور تنمية الاتجاه العنصري لدى أطفالها، وقد يتم هذا الدور بصورة مباشرة عن طريق تلقين الطفل انه ينبغي أن يسلك سلوكا معينا أو يشعر بمشاعر خاصة وان يكون لديه مدركات معينه اتجاه بعض الجماعات أو الفئات. وقد يتم هذا الدور بصورة غير مباشرة عن طريق إدراك الطفل لسلوك والديه وحديثهما عن أفراد هذه الجماعات.
2- الرفقة والجيرة: أيضا لهم دورهم في تنمية هذا الاتجاه، فالطفل يكتسب منهم اتجاهاته وقيمه وسلوكه، وشأن التعصب في ذلك شأن بقية الاتجاهات والخصائل التي يمكن أن نكتسبها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من المحيط الذي نعيش فيه.
ويمكن إجمال الوسائل التي تؤدي إلى التحرر من التعصب الفهم السليم للتعاليم الدينية، وعدم ربط الأفعال العدوانية للمتعصبين بالدين» والتطرف بكل أشكاله غريب عن الإسلام الذي يقوم على الاعتدال والتسامح. ولا يمكن لإنسان أنار الله قلبه أن يكون مغاليا متطرفا». يقول الله عز وجل في كتابه الحكيم (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) « البقرة :143».
التعايش السلمي وتقبل الحوار بين الثقافات والأديان «لقد تبنت المملكة الأردنية الهاشمية نهجا يحرص على إبراز الصورة الحقيقية المشرقة للإسلام ووقف التجني عليه ورد الهجمات عنه، بحكم المسؤولية الروحية والتاريخية الموروثة التي تحملها قيادتها الهاشمية بشرعية موصولة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، صاحب الرسالة، ويتمثّل هذا النهج في الجهود الحثيثة التي بذلها جلالة المغفور له بإذن الله تعالى الملك الحسين بن طلال طيّب الله ثراه على مدى خمسة عقود، وواصلها، من بعده، بعزم وتصميم جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين، منذ أن تسلّم الراية، خدمة للإسلام». رسالة عمان.
التمسك بمبادئ الإسلام وقيمه.
التمسك بحقوق العدالة التي تضمنتها المعاهدات والمواثيق الدولية جميعها.
الاعتراف بالخطأ وتقبل النقد من الآخرين.
مقاومة الفتن والإعلام المظل.
التمسك بان الشرائع السماوية والوضعية التي نادت بفكرة العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع الواحد من جهة، وبين أفراد المجتمع الإنساني ككل من جهة أخرى. فلا خلاف بين فرد وأخر إلا بما يقدمه من خدمة لمجتمعه ووطنه، وبما يتحلى به من مواطنة صالحة، ومن سمات في التسامح ونبذ العنف وعدم التعصب.
التعاون مع الآخرين والاستفادة مما عندهم من معارف وخبرات، والإفادة من ثورة الاتصالات، وترسيخ البناء التربوي للفرد المسلم القائم على الثوابت المؤسّسة للثقة في الذات، والعاملة على تشكيل الشخصية المتكاملة المحصنة ضد المفاسد، والاهتمام بالبحث العلمي والتعامل مع العلوم المعاصرة على أساس نظرة الإسلام المتميزة للكون والحياة والإنسان، والاستفادة من إنجازات العصر في مجالات العلوم والتكنولوجيا.) رسالة عمان) وعليه فالأمل معقود على علماء أمتنا أن ينيروا بحقيقة الإسلام وقيمه العظيمة عقول أجيالنا الشابة، بحيث تجنبهم مخاطر الانزلاق في مسالك الجهل والفساد والانغلاق والتبعيّة، وتنير دروبهم بالسماحة والاعتدال والوسطية والخير، وتبعدهم عن مهاوي التطرّف والتشنج المدمّرة للروح والجسد؛ كما نتطلع إلى نهوض علمائنا إلى الإسهام في تفعيل مسيرتنا وتحقيق أولوياتنا بأن يكونوا القدوة والمثل في الدين والخلق والسلوك والخطاب الراشد المستنير، يقدمون للأمة دينها السمح الميسر وقانونه العملي الذي فيه نهضتها وسعادتها، ويبثون بين أفراد الأمة وفي أرجاء العالم الخير والسلام والمحبّة، بدقة العلم وبصيرة الحكمة ورشد السياسة في الأمور كلها، يجمعون ولا يفرقون، ويؤلفون القلوب ولا ينفرونها، ويستشرفون آفاق التلبية لمتطلبات القرن الحادي والعشرين والتصدي لتحدياته.
الرأي: 18/1/2011
د. عمر البوريني
* عميد كلية الحقوق في جامعة عمان الاهلية
ابحث
أضف تعليقاً