وفي مجال الدعوة إلى الله نجد أن الإسلام ينبذ العنف لأن الدعوة الإسلامية تستهدف البدء بتغيير النفس وإعادة صياغة الإنسان قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ) (سورة الرعد من الآية : 11) .
وتغيير ما بأنفسهم وما بداخلهم لا يتأتى بالإكراه أو العنف ، لأن العنف يؤدي إلى النفاق ، فإذا استعملت العنف في الدعوة أكرهت الآخرين ، فأنت تكسب بذلك منافقاً لا مؤمناً ، لأنك تكسب الظاهر ، أما الداخل أو الباطن فلا يظهر ، ومن هنا كانت وما زالت الحكمة والموعظة الحسنة ، والحوار والجدال بالتي هي أحسن سبيل الدعوة .
فالذين يلجؤون إلى العنف في الدعوة اليوم أو في فرض آرائهم هؤلاء مخالفون تمام المخالفة لمناهج الإسلام في الدعوة ، هذا المنهاج الذي هو منهاج القرآن .
إذن النقطة الأساسية في بداية الدعوة الإسلامية هي تغيير ما في النفس ، وهذا لا يتأتى بالإكراه أو العنف ، فالعنف عادة يكون رد فعل لعنف آخر أو رد فعل لقيود عنيفة تمارس على حريات الإنسان ، فيرفضها رفضاً عنيفاً .
إن استخدام القوة لا يجوز إلا دفاعاً عن النفس وحماية للأرض والعرض ، قال تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ) (سورة الفتح من الآية : 29) ، وقال عز وجل : (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) (سورة النحل ، الآية : 126) ، وقال سبحانه : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (سورة البقرة من الآية : 194) .
فلا بد أن نكون رحماء فيما بيننا لنحقق المنهج الإسلامي في الوسطية والبعد عن الإفراط والتفريط .
فالحوار والمجادلة بالتي هي أحسن هي من أبرز وسائل الدعوة إلى الله وهي علامة على وسطية الأمة واعتدالها في التعامل مع وجهات النظر بل مع المخالف ، قال تعالى :( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) (سورة سبأ من الآية : 24) ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاور الناس ويبحث عمن يقبل دعوته ، واستخدم رسولنا صلى الله عليه وسلم الوسائل المتعددة لتبليغ الرسالة ومنها الحوار .
وقد سمى الله - عز وجل - صلح الحديبية الذي عارضه أغلب الصحابة رضي الله عنهم وعدوه ضيماً سماه عز وجل فتحاً ، قال تعالى : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) (سورة الفتح ، الآية : 1) ؛ وذلك لما ترتب عليه من ثمرات وفتوح كان من أعظمها الحوار بين المسلمين والمشركين وعرض المسلمين لدينهم الأمر الذي كان ممنوعاً وغير مقبول قبل هذا الصلح فدخل الناس بعده في دين الله أفواجاً .
فالواجب على المسلمين الاعتدال في الدعوة إلى الله فلا غلظة ولا شدة ، بل قول لين وموعظة حسنة ورفق بالمدعوين ، وإرشاد بالحسنى للضالين عن الصراط المستقيم ، وستر على المسلمين ، ومجادلة وحوار مع الجميع بالتي هي أحسن .
وقال سبحانه وتعالى :(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (سورة يوسف ، الآية : 108) ، وقال عز وجل : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (سورة النحل ، الآية : 125) ، أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب .
وقال الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم : إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ .
إن وسطية هذا الدين وسماحته لو ظهرت للناس على حقيقتها لوجد التائهون فيه ضالتهم المنشودة وسعادتهم وغبطتهم ، ولتحقق لهم النصر العظيم والفوز المبين .
ولو أعطى المسلمون بسلوكهم المنهج الوسط لكان للإسلام شأن أعظم وأرض أرحب .
ولهذا فإن الواجب تعميق مفهوم الوسطية بالتوعية والإرشاد والقدوة ، ومقارعة الحجة بالحكمة والموعظة الحسنة ، ينهض بذلك العلماء وأهل الهدى ، قال تعالى : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (سورة المجادلة من الآية : 11) ، وقال عز وجل : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (سورة الزمر من الآية : 9) .
على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها ويعين وسائلها وطرائقها ، ويرسم المنهج للرسول الكريم ، وللدعاة من بعده بدينه القويم فلننظر في دستور الدعوة الذي شرعه الله في هذا القرآن .
إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله . لا لشخص الداعي ولا لقومه ، والدعوة بالحكمة ، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم ، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها ، والطريقة التي يخاطبهم بها ، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها . فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه .
وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق ، وتتعمق المشاعر بلطف ، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب ، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية . فإن الرفق في الموعظة كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة ويؤلف القلوب النافرة ، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ .
وبالجدل بالتي هي أحسن بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح . حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس الهدف هو الغلبة في الجدل ، ولكن بالإقناع وإظهار الحق .
. محمد بن أحمد الصالح
10/7/2009
ابحث
أضف تعليقاً