
العلماء في الأزمات: حُرّاس القيم ووُجهاء الوعي
الدكتور زيد أحمد المحيسن
في لحظات اشتداد الأزمات، وتزاحم الفتن، وتكالب القوى، تبرز الحاجة الماسّة إلى منارات ترشد، وأصوات تهدي، وعقول تُحسن التقدير، وقلوب تمزج بين الإيمان بالحكمة والبصيرة. وفي طليعة هؤلاء يقف العلماء، سدنة الفكرة، وحَمَلة الرسالة، والركن الركين في بناء وعي الأمة وتثبيت أركانها عند الزلازل الفكرية والمحن الاجتماعية والسياسية.
العلماء ليسوا مجرد ناقلين للمعرفة، بل هم ورثة الأنبياء، وشهود المرحلة، وحملة أمانة البيان والتبيين. وفي أوقات الأزمات تتجه إليهم الأنظار لا بحثًا عن فتاوى عابرة، بل التماسًا لحلول متزنة، ومواقف جامعة، وخطاب يجمع ولا يفرّق، يبني ولا يهدم، يعلي من القيم ويُرسّخ للثوابت، دون أن يغفل متغيرات الواقع ومقتضيات المرحلة.
إن دور العلماء في رفع همة الأمة في وقت الأزمات لا يقتصر على المنبر أو المحراب، بل يتسع ليشمل صناعة الوعي، وبثّ الأمل، وتحفيز الطاقات، وترميم الثقة بين الشعوب ومقدساتها، بين الأجيال وهويتها، بين الإنسان وقضيته الكبرى. فالخطاب العلمي الرشيد حين يخرج من عالمٍ بصير، يحمل من المصداقية والتأثير ما يعجز عنه إعلام بأكمله.
والعالم الحقيقي هو من يتقدم الصفوف وقت الشدائد، لا يكتفي بالمراقبة من الأبراج العاجية، بل يعيش همّ أمته، يواسي آلامها، ويواكب تطلعاتها، ويكون في ميدانها مرشدًا ومعلّمًا، وسندًا وملاذًا. وفي ظل ما يشهده العالم العربي والإسلامي من تحديات داخلية وضغوط خارجية، فإن الحاجة إلى خطاب علمي أصيل، متوازن، يُعلي من شأن العقل دون أن يُقصي الإيمان، ويستند إلى الوحي دون أن يغفل الواقع، باتت ضرورة وجودية لا ترفًا فكريًا.
وفي هذا السياق، يُنتظر من العلماء أن يؤدوا أدوارًا جوهرية، منها:
تثبيت القيم الأخلاقية في نفوس الناس، كالصبر، والتفاؤل، والتراحم، والعدل، خاصة حين تتفشى روح الإحباط والشك والتذمر.
تقوية اللحمة الوطنية والاجتماعية، عبر خطاب يجمع المختلفين، ويقرب وجهات النظر، ويرسّخ مفهوم وحدة الصف الداخلي، لأن الاختراق الخارجي لا ينفذ إلا من خلال شروخ الداخل.
تحصين الوعي العام من الفتن، سواء كانت فتنًا فكرية أو مذهبية أو إعلامية، عبر بيان الحق برفق، وكشف الزيف بحكمة، وتوجيه البوصلة نحو الأولويات الحقيقية للأمة.
القيام بواجب النصح للولاة والرعية، لا مداهنة في الحق، ولا مجاملة على حساب المبدأ، بل مواقف موزونة تُبنى على العلم وتُراعى فيها المصلحة العامة.
ولأن العلماء هم قدوة الجماهير، فإن كل ما يصدر عنهم من قول أو فعل يُحتذى ويُقتدى، فإن كانت القدوة حسنة، صلحت الجماعة، وإن غابت الرؤية وانحرف الخطاب، تاه الناس في دروب التيه والانقسام.
إن الجبهة الداخلية لأي أمة هي أساس قوتها، والعلماء هم حماة هذه الجبهة بسداد رأيهم، واتزان خطابهم، وارتباطهم العميق بمصالح شعوبهم. ولئن كانت الشعوب تبحث في الأزمات عن قادة عسكريين أو زعماء سياسيين، فإن القادة الفكريين والعلميين هم من يصنعون الوعي الذي يحمي المنجزات ويمهّد للنهوض.
وفي نهاية المطاف ، فإننا في عالم يموج بالتحولات والمتغيرات، بحاجة ماسة إلى استنهاض دور العلماء من جديد، لا كحراس للماضي فقط، بل كمُهندسين لمستقبل تُصاغ فيه القرارات الكبرى على نور من العلم، وتُبنى فيه الأمة بسواعد من الإيمان والعمل واليقين. فسلام على العلماء المخلصين، وسلام على منابرهم التي تبني ولا تهدم، وتجمع ولا تفرق، وتهدي ولا تضل. .
ابحث
أضف تعليقاً